التراث حين يُستعاد قصصاً

التراث حين يُستعاد قصصاً

التراث حين يُستعاد قصصاً

 صوت الإمارات -

التراث حين يُستعاد قصصاً

عمار علي حسن
بقلم: عمار علي حسن

حين يتحدث المختصون في دراسة التراث أو يكتبون، فإنهم يأتون بالماضي على أكف الحاضر في صيغة معارف ونظريات صارت مساقات موزعة على علوم حديثة، بعضها قابل للتداول والاستفادة منه مثل الفلسفة ونصوص الأدب والبلاغة وقبلهما بعض الآراء الدينية والتاريخ، وكثير منها لم يعد إلا جزء من تاريخ العلم غير قابل للتطبيق في واقعنا المعيش.
أما غير المختصين، وهم الأغلبية الكاسحة، فإنهم يستعيدون التراث قصصاً قصيرة، أو حكايات مختزلة، سواء كانت تنحدر من تفسير وتأويل القصص الديني المنصوص عليه في القرآن والحديث النبوي، أو تأتي من باب أولئك الذين يؤدون وظيفة في الوعظ والإرشاد والهداية من العاملين على الدعوة أو دراسة الأديان، أو كانت من الموروث الشعبي، الذي أنتجته القريحة الشعبية الكلية، والنازع في الغالب الأعم إلى الفن والتأريخ والأسطرة.
فالفرد العادي حين يتحدث عن شخصية تاريخية، سواء كانت لقائد عسكري أو فقيه ديني أو متصوف ورع أو سياسي ترك بصمة أو حتى بعض العلماء في مختلف ألوان العلم والمعرفة، فإنه لا يتناولها مثلما يفعل المحققون والمؤرخون ومن يكتبون تاريخ العلم أو يستعرضون الأدبيات وينقدونها في مستهل الدراسات والأبحاث والأطروحات الجامعية، إنما يسترجعونها حكايات شفاهية أو كتابية. وفي الأولى تختلط اللهجة العامية بما استقر في الذاكرة من بعض عبارات وردت على ألسنة أبطال الحكايات أو تعبيرات قيلت عنهم من المعاصرين لهم، واللاحقين عليهم. وفي الثانية نكون أمام كتابة تقوم بالأساس على النقول والتحقق.
وهذه القصص لا تُستعاد كما كتبت بالطبع، فضلا عن أن كتابتها لم تكن أبدا تصورها كما جرت في الواقع دون حذف أو إضافة. فالتاريخ اختيار، وما تم تدوينه منه هو مجرد جانب أو جزء أو مسار يعكس رغبة أو مصلحة أو فهم وإدراك وميل وانحياز من كتبه، فإن خرج من الصفحات إلى الشفاه، وساح في الأرض كلاما محكيا ولغة جسدية، انقطعت بعض صلته بما تم تدوينه وتسجيله في الحوليات والكتب، وقامت صلات جديدة هي بين أصل الوقائع ومقتضيات الحكي، وهي فنية بالدرجة الأساسية، أو خاضعة لشروط الفن، أدرك هذا من حكوها أو غاب عن أذهانهم.
بهذا ينساب التراث قصصاً قصيرة، ويتم تداوله على هذا النحو بين الناس، ليتحول عبر الحكي إلى شيء حي، لاسيما أن من يحكونه بأساليب وطرائق مختلفة، يطلقون في شرايينه الكثير مما تجود به مخيلاتهم وقرائحهم ليصبح قابلا للتداول والاستساغة في زماننا، أو في زمن يأتي.
إن الناس في بلادنا حين يريدون استعادة الماضي، فإنهم يفعلون هذا على طريقة «كان يا ما كان»، لكن ليس بوسعهم في مواقف كهذه، أن يصيغوا ما يودون قوله في سرد طويل أشبه بالرواية، إنما يأتي بالطبع على هيئة قصص قصيرة. وكذلك يفعل الدعاة المسلمون في قصهم على الأسماع حكايات الأنبياء والأولياء والصحابة والخلفاء والفقهاء وقادة الجند في زمن الفتوحات. وعلى المنوال ذاته يحكي الوعاظ الكنسيون قصص الحواريين والرسل والقديسين والرهبان والاستشهاديين. وتستعاد كذلك الحكايات غير الدينية من تراث العائلة والعشيرة والقبيلة، حيث يحرص من هم على قيد الحياة من الأجداد على أن يعرف الأبناء والأحفاد شيئاً عن أمجاد عليتهم وكبارهم. وتأخذ الحكايات ما هو أوسع من هذا حين تلتقط من سياق الحضارات القديمة التي لا ينشغل عموم الناس بعطاءاتها العلمية بقدر انشغالهم بما خلفته من حكايات عن البارزين فيها أو تلك التي تغلف الطقوس الموروثة في الأفراح والأتراح، والجد والهزل.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

التراث حين يُستعاد قصصاً التراث حين يُستعاد قصصاً



GMT 21:31 2024 الأربعاء ,23 تشرين الأول / أكتوبر

كهرباء «إيلون ماسك»؟!

GMT 22:12 2024 الثلاثاء ,22 تشرين الأول / أكتوبر

لبنان على مفترق: السلام أو الحرب البديلة

GMT 00:51 2024 الأربعاء ,16 تشرين الأول / أكتوبر

مسألة مصطلحات

GMT 19:44 2024 السبت ,12 تشرين الأول / أكتوبر

هؤلاء الشيعة شركاء العدو الصهيوني في اذلال الشيعة!!

GMT 01:39 2024 الجمعة ,11 تشرين الأول / أكتوبر

شعوب الساحات

GMT 02:38 2015 الجمعة ,02 كانون الثاني / يناير

باكستان من بين أسوأ عشر دول من حيث حرية "الإنترنت"

GMT 19:35 2013 الثلاثاء ,01 تشرين الأول / أكتوبر

مطعم سياحي مفتوح للجمهور في أحد سجون لندن

GMT 09:53 2018 الأحد ,05 آب / أغسطس

ترجمة وتعريب 1000 درس في "تحدي الترجمة"

GMT 18:11 2015 الأربعاء ,22 إبريل / نيسان

طقس الأردن لطيف الأربعاء وغائم الخميس والجمعة

GMT 06:01 2015 الإثنين ,19 كانون الثاني / يناير

الهند تبني منشآت للطاقة الشمسية فوق القنوات للاقتصاد

GMT 18:53 2016 الإثنين ,11 إبريل / نيسان

تسريب أول صورة لهاتف "نوكيا" بنظام أندرويد

GMT 23:29 2014 الجمعة ,07 تشرين الثاني / نوفمبر

شركة "واتساب" تطرح إصدارًا جديدًا بميزات إضافية جديدة

GMT 19:25 2018 الأربعاء ,21 شباط / فبراير

سيدة تخون شقيقتها مع زوجها في منطقة سيدي إيفني

GMT 00:31 2014 السبت ,29 تشرين الثاني / نوفمبر

"رمان" للتطبيقات تطلق تطبيق "أنت وطفلك - فاين بيبي"

GMT 17:51 2015 الجمعة ,24 تموز / يوليو

معرض تراثي فلسطيني في أسواق بيروت القديمة

GMT 12:14 2017 الأربعاء ,26 تموز / يوليو

تطوير ملصق يعلن عن الاعتداء الجنسي وقت حدوثه

GMT 03:55 2017 الأحد ,15 كانون الثاني / يناير

صفاء حجازي تنعي وفاة الراحلة كريمة مختار " ماما نونة"
 
syria-24

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

emiratesvoice emiratesvoice emiratesvoice emiratesvoice
emiratesvoice emiratesvoice emiratesvoice
emiratesvoice
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
emirates , emirates , Emirates