بقلم - بكر عويضة
ليس سهلاً على مَن شَهِد مراحل عدة من المشهد الليبي، أن يمر به خبر ذيوع «تسجيلات خيمة القذافي» الأسبوع الماضي، فلا يلقي بالاً، بل يتصنع عدم الاكتراث، كأنما هو غير معني بالأمر إطلاقاً، أو أنه لم يعايش تسلسل حدثٍ مهم منذ بدايات وقوعه. بدءاً، مفهوم أن يقع اختلاف بين أطراف عدة بشأن وجود، أو عدم وجود، أصابع خفية هي الصانع الحقيقي، لانقلاب عسكري نفذه عدد من صغار الرتب بين ضباط الجيش الليبي. في المقابل، الأرجح ألا يختلف اثنان، سواء بين أوساط الخائضين في ذلك الجدل، أو خارجهم، على أن ما حدث في ليبيا فجر يوم الاثنين 1-1-1969 لم يكن عاديا. ليس فحسب بالنظر إلى ما جرى لها بعده، ولكل أجيالها المعاصرة، ثم اللاحقة، بل أيضاً لعِظَمِ تأثيره على جوارها، وامتداده إلى أبعد من وجودها الجغرافي كله. تُرى، هل من قبيل الصُدف أن يقرر العقيد معمر القذافي إعطاء صفة «العظيم» في توصيف «ثورة الفاتح»، التي سوف يقول، لاحقاً، إنها «حلم» راوده طالباً في سبها، جنوب ليبيا، ثم قاد تنفيذه ضابطاً يحمل رتبة ملازم أول، من معسكر في «البِركة» - إحدى الضواحي الشعبية ببنغازي - كان أحد مقار الجيش البريطاني؟
سؤال أكثر أهمية: هل كانت تعوز «ثورة» معمر القذافي مباركة «نخب» الثوريين العرب، إضافة إلى الحالمين بتفجير ثورات في مختلف قارات الكوكب؟ نعم. لماذا؟ لأن «حلم» الطالب معمر الثوري، سوف يكبر، فيغدو طموح الضابط الشاب هو أن تجتاح «ثورة الفاتح العظيم» أرجاء العالم العربي، ومن بعده معظم أنحاء العالم، بل كله، لو تمكن. وقد كان. أقصد أن المباركة تمت، لأن العَوَز بدا متبادلاً، بمعنى أن القاسم المشترك جمع بين طموح حلم ثوري، يداعب خيال معمر القذافي، عربياً وعالمياً، ثم هو مدعوم بثروة لديها ما يشبع حلم أي راغب في الغِنى، وبين جموع مثقفين عرب نخبويين بالفعل، لكنهم مهزومون في أحلامهم كلها، وإلى يمينهم أو يسارهم جماعات ثائرين تحطمت أشرعة سفنهم، حين راحت تُبحر في محيطات أفكار ليست تربطها بواقع جماهير تتغنى لها بالشعارات، أي صلات واقعية. أين المُشكل، إذنْ، إذا سارع، بكل الرضى، أغلب من كان ذا شأن، زمنذاك، بين نخب الثوار والمفكرين العرب ذوي التوجه الثوري، طالبين القرب من «ثورة الفاتح العظيم»، خاطبين وِد «الأخ العقيد»؟
واقعياً، ليس ثمة إشكال في الأمر. بل جائز القول إن الانسجام بدا طبيعياً في ذلك الترابط بين ضابط حالم بمكان متميز في التاريخ، يجلس متربعاً فوق بئر ثروة نفط هائلة، وبين رهط ثوري مُحبط، بين أهله الممارس للعمل الثوري، بشكله العُنفي، أو المكتفي بنهجه التنظيري، وكلاهما يشد من عضد الآخر، فإذا معمر القذافي هو «الأخ القائد»، هكذا يُعرف، وعلى هذا الأساس النرجسي يُبجل، وبالتالي يصير في مصاف القادة العِظام. حقاً، من منطلق الإنصاف الموضوعي المجرد من أي هوى ذاتي، يمكن القول إن معمر القذافي ليس المسؤول عن تسول طلاب المال الليبي بزعم أنه مطلوب لدعم قضايا العرب. الفرق كبير، بل شاسع، بين تطلع شعوب عربية، بأي جزء من العالم العربي، لأن يمدهم أشقاء لهم في انتمائهم العربي، ثم في الانتماء الإنساني ذاته، بما يحتاجون إليه من إسناد مالي، وقت الحاجة، وهو واجب لم تتردد في القيام به ليبيا الملكية ذاتها، وبين اصطفاف قادة ثوريين، أو مفكرين ذوي اعتبار، أو صحافيين كبار، في طوابير - بالمعنى المجازي - أمام خيمة العقيد معمر القذافي، سواء انتصبت في سِرت - التي تنتظر هذه الأيام معركة كسر عظم حاسمة - أو بأي مكان نُصِبتْ.
حقاً، لولا مال ليبيا، ما الذي كان سوف يجمع الفاشلين العرب في كل أحلامهم الثورية، مع عقيدها الحالم؟ لا شيء. أكثر من مجتمع عربي شهد انقلابات عسكرية زعمت فيما بعد أنها ثورات، فهل تقاطر على أبواب زعمائها طلاب الدعم المالي؟ كلا، باستثناء العراق، وإلى حدٍ ما الجزائر، لم يحصل هكذا انحناء، ولم يسل اللعاب الثوري، أمام بريق المال، كما شهدت ليبيا. لكن، تبقى المفاجأة الكبرى في «تسجيلات خيمة القذافي» الأخيرة هذه، أن طالبي إسناد ومشورة «الأخ القائد»، لم يكونوا محتاجين للمال، إنما جمعتهم بطالب الحلم الثوري، مفاهيم أمعنت في ارتكاب الخطأ الجسيم على حساب فاضل القيم.