منذ اغتيال رفيق الحريري في مثل هذا اليوم قبل 16 عاما، لا يزال لبنان يعاني. ما يدلّ على مدى معاناته هذه الايّام صعوبة التكهن بتشكيل حكومة لبنانية قريبا. لا حكومة في غياب معجزة تغيّر موازين القوى في المنطقة وتبعث برسالة مباشرة الى رئيس الجمهورية ميشال عون وصهره جبران باسيل. فحوى الرسالة انّ الرهان على ايران وعلى اداتها اللبنانية اقرب الى سراب. كلّ ما في الامر ان الإدارة الأميركية الجديدة لن ترضخ لطلب ايران العودة الى الاتفاق في شأن ملفّها النووي من دون شروط على ان ترفع العقوبات الأميركية المفروضة على "الجمهورية الإسلامية".
يعود غياب الامل بتشكيل حكومة، اقلّه في المدى المنظور، الى وجود منطقين لبنانيين لا قواسم مشتركة بينهما. إنّهما منطق انقاذ جبران باسيل وإعادة الاعتبار اليه، سياسيا، بعد العقوبات الأميركية التي فرضت على هذا الشخص... ومنطق آخر في اساسه البحث عن طريقة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من لبنان عن طريق حكومة ذات مواصفات معيّنة باتت معروفة.
يقوم منطق رئيس الجمهورية على فكرة انقاذ المستقبل السياسي لصهره جبران باسيل. يسعى الى ذلك من خلال حكومة يتحكّم بها الاخير عن طريق الثلث المعطّل، وذلك من دون المطالبة علنا بمثل هذا الثلث. لو لم يكن الامر كذلك، لماذا كلّ هذا الإصرار على حكومة من عشرين وزيرا، أي ان يضاف وزيران احدهما درزي والآخر كاثوليكي على التركيبة التي قدّمها رئيس الوزراء المكلّف سعد الحريري. مطلوب ان يكون الوزيران من بين الذين ينامون على كفّ صهر رئيس الجمهورية الذي يصرّ على وضع نفسه في مستوى رئيس مجلس الوزراء السنّي. اكثر من ذلك، يطالب باسيل بوزير للداخلية وبوزير للعدل يكونان محسوبين عليه من اجل ان يتحكّم بالقضاء والامن في الوقت ذاته وإظهار انّه الرقم الصعب في البلد.
في المقابل، عاد سعد الحريري، رئيس الوزراء المكلّف، الى بيروت من جولة شملت مصر حيث التقى الرئيس عبدالفتاح السيسي، ودولة الامارات العربيّة المتحدة، وفرنسا حيث تناول العشاء مع الرئيس ايمانويل ماكرون في قصر الاليزيه. بعد اقل من 24 ساعة من عودته الى العاصمة اللبنانية، عقد لقاء مع رئيس الجمهورية هو الرقم 15 منذ تكليفه تشكيل الحكومة. لم يطرأ أي تقدّم على الاخذ والردّ بين الحريري وعون في شأن تشكيل الحكومة. هذا ما اكّده الجانبان، خصوصا بعد تمسّك رئيس الوزراء المكلّف باللائحة الحكومية التي سبق وان قدّمها الى رئيس الجمهورية، وهي لائحة اخذت في الاعتبار مطالب سبق لميشال عون ان تقدّم بها.
كان مهمّا تأكيد سعد الحريري تمسّكه بحكومة اختصاصيين، أي حكومة لا تتضمّن حزبيين ورفضه الثلث المعطّل، أيا تكن الجهة الممسكة بهذا الثلث، واصراره على اقتصار العدد على 18 وزيرا. الاهمّ من ذلك كلّه كان شرح الأسباب التي تدعو الى تفادي ايّ تجاوز لهذ ا الاطار الواضح، نظرا الى انّ خريطة الطريق الفرنسية حدّدت هذا الاطار. اكدت فرنسا المرّة تلو الأخرى ان لا مساعدات للبنان من دون حكومة اختصاصيين تباشر برنامجا اصلاحيا واضحا.
لا خيار آخر امام لبنان سوى تشكيل مثل هذه الحكومة في حال كان يريد الحصول على مساعدات تساعد في وقف الانهيار وتولد بريق امل باستعادة البلد بعض عافيته. هذا منطق سعد الحريري. الأكيد ان هذا آخر همّ لدى رئيس الجمهورية وصهره اللذين يعتقدان انّ شيئا لم يتغيّر في لبنان وأنّ الفرج آت من ايران... والمهمّ التركيز على استعادة حقوق المسيحيين، التي هي حقوق جبران باسيل، وان بواسطة ميليشيا مذهبية تابعة لإيران اسمها "حزب الله"!
يعيش ميشال عون وصهره، وهما الثنائي المتحكّم بمؤسسة رئاسة الجمهورية في عالم آخر. لا يعرفان ان لا احد مستعد لاستقبالهما خارج لبنان، لا في العالم العربي ولا في أوروبا او اميركا. لا يعرفان معنى تفجير ميناء بيروت ولا ابعاد انهيار النظام المصرفي اللبناني ولا يفقهان لاهمّية وصول دولة مثل دولة الامارات العربيّة المتحدة الى المرّيخ بفضل جهود أبنائها الذين لم يترددوا في الماضي في المجيء الى لبنان وتمضية أوقات طويلة فيه!
لو كان لدى فرنسا رأي آخر في كيفية تشكيل حكومة لبنانية تنفّذ الاصلاحات المطلوبة وتضمن الحصول على مساعدات، لما كان سعد الحريري انتقل مباشرة من قصر الاليزيه الى قصر بعبدا حاملا اللائحة الحكومية التي تضمّ وزراء اختصاصيين من خارج الأحزاب والتي لا تزال اللعبة الوحيدة المدينة...
الأكيد ان لا وجود للعبة أخرى اسمها اللعبة الإيرانية التي يعتقد ميشال عون وجبران باسيل انّها ستعومهما. لا شيء يمكن ان يعوّم العهد، الذي هو "عهد حزب الله" ولا شيء يمكن ان يعوّم جبران باسيل الذي لا يستطيع الإجابة عن سؤال في غاية البساطة هو لماذا لا كهرباء في لبنان بعدما اشرف على وزارة الطاقة بطريقة مباشرة او عبر ازلامه طوال اثني عشر عاما؟ بالطبع ان السؤال الآخر الذي لا يستطيع جبران باسيل الإجابة عنه هو كيف زادت الكهرباء ديون لبنان بمبلغ خمسين مليار دولار منذ تولّى هو ملفّها؟
منطقان لا يلتقيان ولا يمكن ان يلتقيا. لذلك لم يعد سرّا لماذا كان ذلك الإصرار على اغتيال رفيق الحريري قبل 16 عاما ولماذا الإصرار الآخر على ان يكون ميشال عون، مرشّح "حزب الله"، رئيسا للجمهورية في العام 2016 بعد اغلاق مجلس النوّاب بالقوّة لمدّة سنتين وخمسة اشهر!
من يتمعّن في تسلسل الاحداث منذ اغتيال رفيق الحريري وصولا الى ما وصل اليه الوضع الآن يجد الصورة امامه في غاية الوضوح. مطلوب بكلّ بساطة تكريس وجود منطقين متباعدين لا يمكن الجمع بينهما وان يسير لبنان خطوة أخرى نحو مزيد من الانهيار. فحقد ثقافة الموت الذي لا حدود له على ثقافة الحياة، وعلى بيروت بالذات، لم يتوقّف في ايّ لحظة. لم يكن الاتيان بميشال عون رئيسا للجمهورية سوى جانب من جوانب هذا الحقد الذي اصرّ على تفجير رفيق الحريري وعلى ترويج ان في الإمكان استعادة حقوق المسيحيين، وكأنه توجد حقوق مطلوب استعادتها، عن طريق سلاح "حزب الله"! مثل هذا الحزب ليس، في نهاية المطاف، سوى ميليشيا مذهبية في خدمة مشروع كان هدفه، ولا يزال، ان تكون بيروت مدينة إيرانية على البحر المتوسّط..