لم تكن مجرد مباراة في كرة القدم بمقدار ما كانت تعبيراً عن وجود ايران أخرى، إيران الحقيقيّة، غير تلك التي تسمي نفسها «الجمهوريّة الإسلاميّة» وتسعى إلى التوسع في كلّ انحاء المنطقة تحت شعار «تصدير الثورة». لعبت ايران الأخرى مع اميركا.
كشفت المباراة مدى حب الإيرانيين لأميركا والمبادئ والقيم التي يفترض ان تسيّر السياسة الأميركيّة.
كذلك كشفت أن اختلاق معركة ومواجهة دائمة مع «الشيطان الأكبر» ليس سوى ذريعة اعتمدتها «الجمهوريّة الإسلاميّة» للتعبئة الداخليّة ضد عدو وهمي سمّي «الشيطان الأكبر».
يمكن الحديث، بكلّ اريحية، عن ايران أخرى بعد خوض الفريق الإيراني مباراة مع الفريق الأميركي سادتها روح رياضيّة كما في كلّ مباراة من هذا النوع.
لذلك ابتهج المواطنون الإيرانيون بخسارة الفريق الوطني المباراة امام الفريق الأميركي. كان لدى هذا المواطن خوف من استغلال النظام لمثل هذا الانتصار... على اميركا وتوظيفه في مصلحته !
في اثناء المباراة وقبلها وبعدها، تصرّف اللاعبون الإيرانيون في الدوحة بشكل طبيعي على العكس من النظام في طهران.
تلقوا الخسارة بكل رحابة صدر. كان مشهد لاعب أميركي يواسي لاعباً إيرانياً مشهداً إنسانياً لا علاقة له بالطريقة التي يتعاطى بها النظام الإيراني مع الأميركيين والأجانب عموماً.
فكل أميركي أو أوروبي، بالنسبة إلى النظام، جاسوس... إلى أن يثبت العكس.
لم يقتصر الأمر، كما ظهر في فيديو قصير، على مواساة اللاعب الأميركي للاعب الإيراني، كان هناك تجاوب من اللاعب الإيراني الذي وجد في الأميركي انساناً طبيعياً صادقاً عانقه بدفء.
كانت المباراة بين الفريقين الأميركي والإيراني في كرة القدم في اطار مسابقة كأس العالم التي تستضيفها قطر. انتهت المباراة بفوز الفريق الأميركي بنتيحة واحد - صفر، وذلك على الرغم من الإداء الجيد للفريق الإيراني.
لم يوجد ما يفرّق بين هذه المباراة وأي مباراة أخرى، أجريت في اطار كأس العالم، خصوصاً لجهة الاحترام المتبادل بين اللاعبين الأميركيين والإيرانيين.
مؤسف أن ليس في أوساط النظام الإيراني من سيفكّر في هذه المفارقة في وقت لم يتردد «المرشد» علي خامنئي في القول ردّاً على الثورة الشعبيّة التي تشهدها ايران، إنّ «دور ايران في العراق وسورية ولبنان أفشل المشروع الأميركي لإسقاطها».
يبدو واضحاً أنّ صاحب الصوت الأعلى والأقوى في «الجمهوريّة الإسلاميّة» لا يدرك أن المشكلة الحقيقيّة للنظام ليست مع اميركا، بل هي مع الشعب الإيراني الذي انتفض في وجه الظلم والتخلّف.
عملياً، لم ينتفض الشعب الإيراني في وجه الحجاب الذي يبقى وضعه أو عدم وضعه حرّية شخصية للمرأة.
انتفض الإيرانيون لأنّهم يستأهلون نظاماً أفضل لا يعتقد أنّ دفاعه عن نفسه يكمن في تدمير العراق وسورية ولبنان واليمن، ولا بإفقار الشعب الإيراني وحرمانه من ثروات البلد... وجعل ما يزيد على نصف المواطنين يعيشون تحت خطّ الفقر!
لم تكن المباراة بين الفريقين الأميركي والإيراني مباراة عاديّة بأي مقياس من المقاييس.
كانت تعبيراً عن أنّ الكيل طفح لدى الإيرانيين وليس لدى النساء الذين يمثلون نصف المجتمع فقط. هناك شعب يبحث عن حريته وكرامته وعن خروج من التخلّف والبؤس.
لم ينزل الإيرانيون إلى الشارع في العام 1978 للتخلّص من نظام الشاه، وهو ما حصل بالفعل في فبراير من العام 1979، كي يبتلوا بنظام أسوأ عزل بلدهم عن العالم وحولها إلى تهديد لمحيطها، خصوصاً للمحيط العربي.
تعطي المباراة فكرة عن أن الثورة التي تشهدها ايران منذ السادس عشر من سبتمبر الماضي، إثر وفاة الفتاة الكردية مهسا اميني في مركز للشرطة، ستستمرّ.
شيء ما تغيْر في الداخل الإيراني في وقت يبدو واضحاً أنّ الصراع على السلطة بين اجنحة النظام صار حاداً بعدما تقدّم العمر بـ«المرشد» وباتت خلافته مطروحة.
لكنّه يبقى أن أهمّ ما كشفته المباراة هو ذلك التعلّق لدى الشعب الإيراني بالقيم الأميركية وذلك بغض النظر عن ارتكابات حصلت في الماضي، خصوصاً في خمسينات القرن الماضي عندما هرب الشاه امام حكومة مصدّق واعاده الأميركيون والبريطانيون بموجب انقلاب مدبّر على مصدّق.
يبقى في المجمل أنّ ايران في السنوات التي كانت علاقتها جيدة بأميركا، كانت أقرب إلى جنّة على الأرض بغض النظر عن ميل الشاه محمّد رضا بهلوي إلى لعب دور «شرطي الخليج» والأخطاء الجسيمة التي ارتكبها، من بينها احتفالات برسيبوليس في العام 1972 والتي كشفت عنجهية ليس بعدها عنجهية واحتقاراً للفقراء في بلده.
عاجلاً أم آجلاً، ثمّة سؤال سيطرح نفسه بقوّة: هل من مستقبل للنظام الإيراني؟ الجواب من الآن أنّ لا مستقبل لهذا النظام الذي بات يعيش في حال انفصام مع شعبه.
لم تكن المباراة بين الفريقين الأميركي والإيراني سوى صورة عن هذا الانفصام الذي سيظهر بوضوح مع مرور الوقت.
يبقى كيف سيؤثر التغيير الداخلي الإيراني في دول مثل العراق وسورية ولبنان واليمن؟ ما انعكاس هذا التغيير على الميليشيات التابعة لـ«الحرس الثوري» التي تتحكم بهذه الدول؟
سيتوقف الكثير على كيفية تطور الأمور في الداخل الإيراني. الأكيد أنّ كثيرين سيحذرون من أي تفاؤل من أي نوع في حصول تغيير نحو الأفضل، لكنّ الواقع يقول إنّ حصول التغيير اكثر من طبيعي في ايران بعدما تكسّرت هيبة النظام.
لو كانت مثل هذه الهيبة ما زالت موجودة لما كان لاعب إيراني تجرّأ على معانقة لاعب أميركي في الدوحة امام مئات الكاميرات.
نعم، كانت مباراة اميركا - ايران اكثر من مباراة. كانت تأكيداً لمدى حب الإيراني العادي لأميركا وإعجابه بها مع كلّ ما يمكن ابداؤه من ملاحظات على تصرفات الولايات المتحدة في الشرق الأوسط والخليج وتقديمها مصلحة ايران على مصلحة حلفائها التقليديين مرات عدة... في أدقّ الظروف وأكثرها حساسيّة.