هل نحن بحاجة إلى عمل درامي يروي لنا حكاية أم كلثوم التي نعتقد جميعاً أننا نعرف قصة صعودها؟ إجابتي هي نعم، أغلب الشائع عن أم كلثوم يقدم لها وعنها صورة ذهنية أسهمنا نحن، كما أسهمت هي، في تصديرها، لكل الأجيال التي عاصرتها أو جاءت بعدها.
الأفلام الروائية والتسجيلية والبرامج لعبت دوراً كبيراً في ترسيخ ملامح محددة، توارثناها في «الجينات».
يحتل مكان الصدارة في تأكيد تلك الصورة، مسلسل أم كلثوم، الذي صار في الذاكرة الجمعية هو أصل وفصل أم كلثوم، وليس مجرد صورة عنها كتبها محفوظ عبد الرحمن وأخرجتها إنعام محمد علي، وبعد مرور ربع قرن على المسلسل، ونصف قرن على رحيل أم كلثوم، تعاملنا مع الفنانة صابرين كما شاهدناها في المسلسل، بوصفها الحقيقة، وليست مجرد اجتهاد من مجموعة قررت تقديم وجهة نظر، اتكأت على توجه مسبق لكل الأطراف، كانوا جميعاً حريصين على الاحتفاظ بوهج الأسطورة، وتقليص حجم الإنسانة.
التجربة أثبتت أننا، بنسبة كبيرة، نميل للسلبية في تلقي المعلومة، ونفضل الشائع المتعارف عليه، حتى نريح ونستريح.
بالصدفة التقيت في ختام «موسم الرياض» قبل مباراة الأهلي والزمالك مع الكاتب الروائي والدرامي أحمد مراد. أتابع أحمد في المجالين، واستوقفني وصوله لقاعدة عريضة من القراء، كما أنه صار من الأسماء التي تشعر عشاق السينما بالاطمئنان، بعد تلك الثنائية الرائعة التي حققها مع المخرج الجدير بصفة استثنائي مروان حامد.
أحيطت بدايات مراد باستهجان من بعض الكبار، لأنه استحوذ ولا يزال على مدى سنوات، بلقب الأكثر مبيعاً، تعامل معه عدد منهم على أساس أنه ليس فقط ظاهرة مؤقتة، ولكنه صار يشكل خطورة على قدسية الإبداع الأدبي في الوطن العربي، ولم يستوقفهم حق القراء في الاختيار، ولم يكلفوا أنفسهم عناء البحث عن أسباب كل هذا الانتشار بين جيل الشباب.
يعكف مراد على قراءة كل المصادر التي أحاطت بأم كلثوم، ليقدم مع توأمه الفني مروان حامد إطلالة سينمائية، أطلقتها هيئة الترفيه، لتقديم عمل يليق بسيدة الغناء العربي، برؤية عصرية، للفنانة الأولى التي اخترقت حاجزي الزمان والمكان. المؤكد أن هناك مساحات غير موثقة في تاريخ أم كلثوم، تلك التي تحتمل أكثر من رواية، وتتعدد فيها الرؤى، وأظنها ستصبح هي الهدف في التناول الدرامي على الشاشة الكبيرة.
لا أحد ينتظر بالضبط، الحقيقة المطلقة المثبتة بالوقائع، ولكن الهدف هو الحقيقة الشاعرية التي يختلط فيها الوثيقة بزاوية الرؤية بوجهة نظر مبدع العمل، إطلالة محفوظ وإنعام لم تقل كل الحقيقة، مشاعرهما، تخلق حائطاً مكتوباً عليه «ممنوع الاقتراب»، كما أن الدولة كانت هي المرجعية، بكل ما تعنيه الكلمة من رغبة في تقديم صورة محددة بكل الإيجابيات.
أم كلثوم لم تعاصر زمن تقديم المسلسل، إلا أن رغبتها في تقديم زاوية أحادية مثالية ظلت، ولو من بعيد لبعيد، مسيطرة، على الجميع. الكثير من الوثائق استبعدها محفوظ من روايته الدرامية، لأنه كان يستشعر أن هناك من سيقرأها بوصفها تحمل طعناً في أم كلثوم، لا أعتقد جازماً أن هناك تعليمات مباشرة بذلك، بقدر ما هي أيضاً قناعة تتوافق فيها كل هذه الرغبات، التي أدت في النهاية إلى أم كلثوم «صابرين»، هذه المرة نحن بصدد أم كلثوم «منى زكي».
نقطة البدء باختيار منى تعني الكثير، وهي أننا سنرى إبداعاً في تلك المساحة الواقعة بين الشك واليقين، بين الفنانة التي ترنو لكي تعانق السحاب والإنسانة التي تتمنى أن تعيش حياتها، هذا الصراع لم يهدأ مطلقاً داخل أم كلثوم، وسيطر على كثير من أفكارها واختياراتها، ظلت الفلاحة الشيخة الكامنة في أعماقها لديها قناعات، لا تقبل حتى النقاش رغم أن الإنسانة كانت لديها اختيارات أخرى.
هل يتقبل الجمهور أن يرى صورة مختلفة لـ«الست»؟ لا أعتقد أن هذا السؤال سوف يشغل بال «إمبراطورية ميم» أقصد مراد ومروان ومنى، بقدر ما يصبح الرهان على الإخلاص في السرد، قطعاً لن يقدموا بالضبط الحقيقة، عشرات من الحكايات غير الموثقة، وبعضها أيضاً غير منطقي، صارت ترسم ملامح شائعة لأم كلثوم التي نعتقد جميعا أننا نعرفها، بينما الحقيقة أننا لا نعرف - إلا ما أرادت «الست» حتى بعد غيابها نصف قرن - أن نعرفه!