الشكاوى من المتطرفين المتأسلمين الذين أحضروا العنف والوحشية إلى شوارع باريس مرتين خلال هذا العام أعادوا التاريخ البعيد، ولكنهم لا يؤمنون بأن ما يفعلونه تطرف وحشي وغاشم، بل إنهم يرونه "استمرارًا للكفاح الذي بدأ منذ أكثر من ألف عام"، وهو ما كان يتحدث عنه أسامة بن لادن عندما حذر العالم الغربي العام 1996 من أن العالم الإسلامي عانى دائمًا من العدوان والظلم والإثم وغياب العدالة "المفروض عليهم من التحالف الصليبي الصهيوني".
واليوم يغذي "داعش" مشاعر الغضب والاستياء على نفس النحو من السلوكيات المسمومة، فهو يكشف في بيانه الشامت أن الهجمات المتطرفة في باريس أدانت فرنسا التي كانت عاصمة للصليبين في القرون الوسطى؛ حيث يرى المتطرفون أنفسهم منخرطين في الحرب كقدم الإسلام نفسه، للنضال من أجل سيادة العالم ضد المسيحية.
ومثل هذه القراءات التاريخية تعكس الحقيقة التي لاشك بها أن كلتا الديانتين واجهتا بعضهما لسيادة العالم كله ليبقى الصراع بينهما من أجل السيادة فيما بعد.
وكان هناك مسيحيون في العصور الوسطى يؤمنون بأن الإسلام ليس على شيء أكثر من هرطقة وانتحال لدينهم، وعلى الجانب الروحي المقابل، اتهم الكتاب المقدس للإسلام (القرآن) المسيحيين بأنهم أتلفوا الإنجيل وأفسدوه، وفي بدايات القرن السابع، عندما بدأ النبي محمد دعوته الدينية كان غالبية الناس في القرون الوسطى مسيحيين.
وبعد العام 650 هجرية بعد وفاة النبي محمد العام 632 هجرية بنحو 20 عامًا غزت الجيوش العربية معظم الشرق الأوسط وجلبوا أعدادًا هائلة من المسيحيين تحت حكمهم.
ونمت الإمبراطورية الناشئة بقوة وفرضت الجزية على من احتلوهم، ولكن ماذا عن هؤلاء المسيحيين الذي رفضوا الخضوع للعرب؟ لقد ظل سكان الإمبراطورية البيزنطية محتجزين لديهم، وهو الاسم الذي أطلقه المورخون على الشرق الذي كان نصفه تحت الحكم الروماني، وبالرغم من ذلك فقدوا سورية وفلسطين وكل الأقاليم في شمال أفريقيا.
ومع القرن الـ18، أي بعد 100 عام بعد وفاة النبي محمد، أصبح جليًّا أن الخلافة الإسلامية التي أنشئت لم تكن متجهة لاحتلال العالم كله في ضربة واحدة، كما يتمنى المسلمون بالأساس.
وبالرغم من ذلك، فقد زحفوا باتجاه الغرب ناحية المغرب وفي الشرق باتجاه أوساط آسيا، وكانت الجيوش العربية لاتزال تواجه الرفض في بعض الأحيان، وكان البيزنطيون أعدائهم الأكثر شراسة، كما كانوا منذ البدايات، وكانت عاصمتهم القسطنطينية بمثابة الحصن الذي يحمي المسيحية.
وتمت محاصرتها مرتين من العرب، واستطاعت صد الحصار في المرتين، وفي نهاية المطاف عرض العرب حربهم مع البيزنطيين على أنها مأزق طاحن، وواحدة تتجه نحو تحمل مسؤوليتها أجيال لا نهائية.
ولم يكن مفاجئًا أنه أثناء القرن الـ18 أن يبدأ المسلمون في إقناع العالم بالانقسام بين "دار الإسلام" والمسيحية "دار الحرب" وأشرار وفقًا لمعتقداتهم، ومتصلبين في تحديهم للقرآن.
وأصبحت هذه الأقاويل منسوبة لمحمد، التي تحض على الحرب في سبيل الله، وأنها واجب المسلمين المؤمنين مثل: أمرت أنا أحارب كل الرجال حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله.
وكانوا يلقنون بأن ذبح المسيحيين ليس مجرد خيار للمسلمين المطيعين، ولكنه التزامًا إيجابيًّا، كما قدم نموذجًا لواحد من قدامى المقاتلين في الحرب ضد البيزنطيين كمعوج وعنيف لأنه خذل صديقه الذي كان تباهى بسلمية حجه إلى مكة والمدينة المنورة.
وفي الوقت ذاته، كان الملوك المسيحيون في غرب أوروبا يكافحون من أجل التوفيق بين تعليم المسيح لتحويل الخد الآخر مع الدفاع عن غرائز نفوسهم، ولم يكن لديهم الكثير من الخيارات، حيث اجتاح القراصنة العرب سواحل إيطاليا وجنوب فرنسا واستولوا على مقاطعات كاملة للحصول على غنائم بشرية، بينما في إسبانيا غزا المسلمون الإمبراطورية التي تركت شبه جزيرة للمسيحيين محصورة مثل الذئاب في الجبال والسهول الجرداء.
وفي الأندلس المعروفة بالخلافة الإسلامية في الغرب، الدولة الأندلسية، كانت بارزة كأي دولة في ظل حكم الإسلام، غنية بالمحاصيل ومجوهرة مرصعة بين الدول وتزينت بفنون السلام مثل العلوم والفلسفة.
وحتى أعدائها من المسيحية أشادوا بها لكونها "حلية العالم وزخرفه"، وبالتأكيد لم تكن الممالك المسيحية التي مزقتها الصراعات والفقر شيئًا إلى جانب هذه الأندلس، ويبدو أن التخلف هو النظام الطبيعي للأشياء كما حدث مع مسلمي الأندلس، وكانت أحد مظاهر ذلك في 997 عندما عزل جيش المسلمين سانتييغو دي كومبستيلا أقدس مزار مسيحي في إسبانيا.
وتم تعليق أجراس الكاتدرائية المسلوبة من أكبر مسجد في قرطبة في الجنوب لتنير لخدمة الإيمان، وتم إطلاق سراح أسرى الحرب للعمل بامتداد المسجد الكبير، وتم قطع رأس الآخرين علنًا ومشوا بهم في السوق قبل أن يتم تعليقها على بوابات القلعة.
ومع ذلك ورغم كل هذه الممارسات لم تنهار المسيحية، فبدلاً من ذلك بدأت في الانتقال للهجوم، وجرت استدعاءات من قِبل البابا في 1096 للدفاع عن الأماكن المقدسة في القدس، فانطلقت جحافل من المحاربين المسيحيين من الغرب الأوروبي إلى الأماكن المقدسة، وبعد ذلك بـ3 أعوام في يوليو/تموز 1099 اقتحم الجيش المسيحي القدس وأصبحت شوارع ثالث المدن الإسلامية المقدسة متدفقة بالدماء.
وفي نهاية ذلك عندما انتهت عمليات الذبح، ابتهج المحاربون المسيحيون وبكوا من الفرحة وعدم الإيمان وركعوا في نشوة العبادة عند قبر المسيح المخلص.
وانعكس نجاح الصليبيين على التسليح في العقيدة المسيحية التي جعلتهم متساووين مع الإسلام، الدفاع عن النفس بالعنف.
وحتى بالرغم من بقاء القدس في أيديهم أقل من قرن، أثبت المنتصرون الآخرون قدرة أكثر على التحمل، ففي القرن الحادي عشر أخذ النورمانيون صقلية من الحكام المسلمين مرة أخرى، وفي نفس الأثناء احتل مسيحيو إسبانيا الأندلس، وليس هذا فقط، فقد أحبط جميع المسلمين، وكانوا يسخرون من الأوروبيين البربر والبلد المجزأة والفقيرة والنساء العاريات بلا خجل، والرجال الذين لا يغتسلون أبدًا، واتسعت آفاقهم مع القرن الخامس عشر، ليستكملوا وتتوسع سلسلة الأراضي المسلمة من الأطلنطي إلى بحر الصين.
وربما كان المسلمون يسافرون عبر هذه الإمبراطورية المجزأة سياسيًا في أي مكان، ويمكنهم أن يسمعوا عربية القرآن والفخر في يقينهم بأن العالم كان به حقيقة إيمانية عالمية وهي الإسلام.
وفي 1453 وقعت أحداث تؤكد أن إيمان المسلمين مازال أكثر عالمية، وهو احتلال قسطنطينية من قبل العثمانيين الأتراك لتتحول أشهر المدن المسيحية وتكون معقلاً للإسلام، حيث كان الكثير من البلقانيين تحت حكم العثمانيين بالفعل، ويبدو أنه ربما تقع أوروبا في الإسلام بعد كل هذا.
وعام بعد عام، تقصت القوات التركية الحصون المسيحية عبر سهول هنغاريا، أو عبر المياة بالسفن الحربية قبالة مالطة، وفي 1529 ومرة أخرى في العام 1683 استولى الجيش العثماني على فيينا.
وكانت هذه آخر محاولة لتوسيع الخلافة عبر أوروبا، حيث تحولت موازين القوى العالمية وأغلقت ألف سنة من سيطرة المسلمين وهيمنتهم على العالم.
وكان المسيحيون هم من استعمروا أميركا، وأنشأوا الإمبراطوريات التجارية التي امتدت بالعالم، وبدأت عملية التصنيع.
وببدء القرن التاسع عشر عندما كانت الهند تحت حكم الرجا البريطانيين، وتراجعت إمبراطورية الخلافة التركية في العواصم الأوروبية بعدما أصبحت تركيا "رجل أوروبا المريض أو العجوز"، لم يكن المسلمون قادرين على إغلاق أعينهم عن تراجع أمجادهم وتدهور وضعهم، فقد أصبحوا هما الآن موضوعات الإمبريالية وتم إغلاق صفحة الإسلام كحضارة ويتم تضييق الخناق عليهم بوصفهم متخلفين كما كانت المسيحية.
وعلى كل إنسان تحديد إيمانه منذ اليوم الأول بما يستحقه، فقد كان المسلمون يستهدفون أن يشار إليهم بالنجاح عبر تاريخهم في العالم.
ونتيجة لتبعيتهم للبريطاني أو الفرنسي الكافر، فإن الكثير من المسلمين في العالم ممن يتطلعون لعصر خلافتهم الذهبي ليكون مستوحى لهم، إن عصر محمد وأتباعه الذي شهد بداية الإسلام من صحراء قاحلة ليصبح إمبراطورية عالمية يجسد نموذجًا يحتذى به، وعبر عقود الأخيرة بدأ السخط والغضب من التدخلات الغربية في الدول الإسلامية مثل أفغانستان والعراق وهو ما يجعلهم ينشدون استدعاء الماضي المزدهر.
ووفقًا لاستبيان اليوم، فإن اثنين من كل ثلاثة مسلمين عبر العالم يريدون أن يروا استعادة الخلافة، إنها ليست مجرد إمبراطوريات في مواجهتهم، وليست مجرد إمبراطوريات إسلامية، ومن المستغرب بعد ذلك أن تكون القاعدة وداعش أسرى لفترات تاريخية تبدو غامضة تمامًا للغربيين.
وما يتطفل على أذهان المتطرفين أن القسطنطينية كانت مدينة إسلامية لأكثر من 600 سنة، ولم ينفض الغبار من على الصليبيين، وأن أوروبا لم تعد تعرف نفسها بأنها مسيحية، إنهم يسكنون بعقولهم في حقبة تاريخية تنتمي للعصور الوسطى، ولم تذهب بهم لأبعد من ذلك، وخطر هذه الطريقة من التفكير ظهر في الوحشية الواضحة، فالعالم الذي يقتل فيه الشباب وهم في حفلة للروك باسم لعنة "الصليبيين" هو عالم على وشك الجنون.
وليس غير المسلمين المهددين فقط جراء هذه النوستولوجيا الإمبريالية، فقد حذر داعش مسلمي أوروبا من أن يكونوا مع الصليبيين أو مع الإسلام، إنه الطموح في إرهاب الغرب ليتحول ضد مسلميه، وتجعل الأمر مستحيلاً عليهم ليعيشوا هنا في مساواة، ولذلك سيجد المسلمون أنفسهم مستبعدين من الدول المسيحية ومستبعدين من أوطانهم، ليعيشوا في الخلافة فقط.
وبالكاد يمكن استغلال التاريخ بوحشية أكثر، فلا ينبغي أن يتشكك أحد في الطبيعة الخطرة للذكريات التي يلعب بها الدواعش، وحلم المتطرفين في العودة ليقسموا منافسيهم بالعنف، وإلى "ديار الاسلام" و"ديار الحروب"، ولم يعد يبدو هذا الأمر من الخيال، إن ظلال الماضي تنمو في الظلام حول أوروبا والعالم.
أرسل تعليقك