أبوظبي – صوت الإمارات
في مطلع القرن الـ21 عاشت سينما "العضلات المفتولة" و"الفنون القتالية" أزمة انحسار. وقتها كان نجوم الأولى يعيشون لحظات أفول، فمثلاً خرج سلفستر ستالون بلقب أسوأ ممثل في القرن الـ20، وسقط فيلم آرنولد شوارتزينيغر "كلّاترال داميج" بسبب تأثير هجمات سبتمبر الإرهابية 2001 على المزاج العام في الولايات المتحدة وانعدام التجديد في القالب العام للفيلم، فانصرف الممثل عن السينما وانتقل إلى السياسة.
أما سينما "الفنون القتالية" فقد كانت تعاني أزمة تتعلق بوجودها، إذ إنها قدمت كل ما لديها واهترأت بنهاية عقد التسعينات بعد ازدهار دام أكثر من 20 سنة. نجما تلك السينما كانا جين كلود فاندام وستيفن سيغال، وقد دفعا ثمناً غالياً بالإصرار على البقاء عكس اتجاه رياح التغيير قبل أن يفقدا امتياز الطرح السينمائي وينجرفا إلى أسواق الفيديو.
في ذلك الوقت كان المخرج الصيني جون وو يتربع على عرش سينما الأكشن في هوليوود، لكن عرشه اهتز بسقوط فيلم "ويندتوكرز" 2002 وسقط هو الآخر. وبدا واضحاً جداً أن سينما الأكشن تعاني بوادر أزمة. وكانت التوقعات تتجه إلى الأخوين واتشوسكي صانعي ثورة أفلام "ذا ميتريكس" للجلوس على العرش.
في عام 2002 حدث ما لم يكن متوقعاً عندما طرح فيلم The Bourne Identity أو "هوية بورن" بوافد جديد على تلك السينما اسمه مات ديمن. الأخير ممثل دراما موهوب اشتهر من خلال دوره في فيلم "ويل هانتنغ الطيب" وحقق شعبية كبيرة وهو في "هوية بورن"، حيث أثبت كفاءة عالية جداً في أداء الفنون القتالية، وبذلك جمع بين الموهبة التمثيلية والمهارات القتالية، وأدركت هوليوود أن دماء سينما الأكشن تجددت لكن اللمسة الأخيرة لاتزال ناقصة.
حقق "هوية بورن" المقتبس عن رواية للكاتب روبرت لودلم نجاحاً كبيراً وكان لابد من صنع جزء ثانٍ لإكمال القصة، فجاء الثاني بعنوان The Bourne Supremacy أو "سيادة بورن" 2004 أفضل من الجزء الأول لأنه أضاف الحلقة المفقودة، وكانت تلك لمسة المخرج الإنجليزي بول غرينغراس المتخصص أساساً في صنع أفلام الصحافة الاستقصائية.
وعندما طرح الجزء الثالث والأخير (افتراضا) بعنوان The Bourne Ultimatum أو "إنذار بورن النهائي" 2007 دخل التاريخ كونه أعاد تعريف سينما الصنف (الأكشن) بوضعها في قالب جديد. وهنا جلس بول غرينغراس على العرش خلفاً لجون وو.
ألهمت سلسلة أفلام بورن أعمالاً أخرى عدة كان أهمها أفلام العميل السري البريطاني جيمس بوند (كازينو رويال وكل ما جاء بعده)، وكذلك أفلام تيكن.
غاب بورن وكانت هناك محاولة من عنيد هوليوود توني غيلروي لاستعادة إرثه بصناعة سلسلة فرعية بعنوان The Bourne Legacy أو "إرث بورن" 2012 إلا أنها كانت عثرة أكثر من محاولة. لكن هذا العام نحن أمام فيلم بورن جديد يسمى "جيسن بورن" يكمل القصة التي انتهت في 2007 دون أن تنتهي.
الفيلم يبدأ بعد 10 أعوام من نهاية أحداث الجزء الثالث 2007 عندما غادر جيسن بورن (مات ديمن)، وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية سي آي إيه التي دربته ليكون آلة قتل توظفه لمهامها القذرة. بورن عزل نفسه عن العالم وانتقل للعيش في اليونان، حيث يكسب رزقه من مباريات قتال شوارع غير قانونية. نيكي بارسونز (جوليا ستايلز) عميلة وكالة سي آي إيه السابقة والمسؤولة عن العمليات اللوجستية للبرامج السرية تعيش في آيسلندا، حيث تعمل مع واش على شاكلة إدوارد سنودن على اختراق أجهزة السي آي إيه وفضحهم. أثناء إحدى عملياتها الاختراقية تكتشف سراً عن جيسن بورن فتقرر الذهاب للقائه في اليونان وإبلاغه به.
في تلك الأثناء تكتشف خبيرة مكافحة التمرد والقرصنة هيذر لي (أليسيا فيكاندر) محاولات بارسونز للاختراق فتبلغ مدير الوكالة روبرت ديوي (تومي لي جونز) الذي يبلغ أحد المتعاقدين مع الوكالة لتنفيذ عمليات اغتيال (فينسينت كاسل) بالعثور على بورن وبارسونز وقتلهما.
"جيسن بورن" لم يكن سهل الولادة كما صرح غرينغراس في وقت سابق لأن الأخير وضع معايير جودة عالية لأجزائه السابقة فكان لزاماً عليه صنع فيلم يحافظ على تلك المعايير، وفي الوقت نفسه يدفع القصة إلى الأمام، وبإمكاننا القول أن تحالف ديمن/ غرينغراس نجح في مهمته.
غرينغراس يعيد توظيف أسلوبه أو ما أصبح توقيعه الخاص المطبق في "سيادة بورن" و"إنذار بورن النهائي" في تصوير اللقطات بالكاميرا المحمولة باليد، التي تتميز بالاهتزاز الشديد وهو بذلك يضع لمسته الخاصة بمزج أسلوب التوثيقي بالأكشن، ثم إدخال القطعات القصيرة والسريعة بالمونتاج والهدف إضفاء نوع من الواقعية عليها وأيضاً إدخال المشاهد في وسط المشهد ليعيش أجواءه.
"جيسن بورن" لا يقدم شخصية شريرة واضحة ولو اعتمدنا دوافع سلوك الشخصية كمعيار فإن الشرير في الفيلم والأجزاء السابقة هو الحكومة الأميركية. لو أخذنا فيلم "إنذار بورن النهائي" لوجدنا أن حكومة الرئيس السابق جورج بوش الابن هي المتهمة من خلال أخطائها المرتكبة في حروبها على الإرهاب، ولو نظرنا إلى هذا الفيلم سنجد أن حكومة الرئيس باراك أوباما هي المتهمة من خلال تحالفها مع شركات وسائل التواصل الاجتماعي وتعديها على خصوصيات الناس.
الفيلم يقدم شخصيتين في هذا الإطار، الأولى هي مدير وكالة الاستخبارات الذي يجسده تومي لي جونز، وهو يشبه إلى حد ما دوره في فيلم The Fugitive أو الهارب 1993 من جهة أن الشخصية تؤدي المطلوب منها دون الالتفات لضميرها الأخلاقي. والثانية شخصية المتعاقد لعمليات الاغتيال ويجسده فينسينت كاسل الذي يؤمن بأهداف الحكومة السياسية ويعتبر كل من يعارضها خائناً. ويؤدي كاسل الشخصية بشكل رائع، حيث إنها توحي بالذكاء دون أن تتحدث، وتذكر بالشخصيات الشريرة في أفلام دون سيغل في سبعينات القرن الماضي.
من الصعب العثور على مخرجين يستطيعون انجاز ما فعله غرينغراس في أفلام بورن، خصوصاً قدرته على تصوير مشاهد أكشن ومطاردات وسط الفوضى كما حدث في مشهد مطاردة اليونان وسط تظاهرات شغب، وكذلك مطاردة السيارات الرهيبة في لاس فيغاس وهي لا تخلو من اللقطات الكلاسيكية التي سترسخ في ذاكرة عشاق السلسلة وهو الأكشن في أرفع صوره.
"جيسن بورن" هو أفضل فيلم سياسي / أكشن لهذا العام، وهو دلالة على شغف جميع العاملين فيه بما يصنعوه، لأن النتيجة النهائية هي سينما أكشن جميلة حافظت على تألقها وازدهارها حتى بعد عقد كامل.