بيروت ـ وكالات
تتابع الكاتبة اللبنانية رينيه حايك، مسيرتها الروائية في رواية جديدة بعنوان ” رسالة من كندا”. وفي عملها هذا تكشف الكاتبة عن واقع الحرب الأهلية، ما تفعله في تشتيت الأسر و تفكيك المجتمع، وإلحاق الخرائب المادية والانكسارات الروحية في حياة الناس. أبطال رواية ” رسالة من كندا” الذين تدور حولهم الأحداث، هم عائلة لبنانية مكونة من أب وأم وثلاثة أطفال، يعمل الأب أنطوان طبيب مخلص في عمله، حتى أنه قد يغيب ثلاثة أيام متواصلة من دون أن يرجع إلى بيته، زوجته كارلا تضيق ذرعا بطريقة حياته إلا أنها تغض الطرف وتستحمل مع توجيه لوم له بين حين وآخر،لنقرأ : ” زوجته كارلا لم تتصل بالمستشفى. اعتادت على دواماته الطويلة. احيانا كثيرة كان يغيب لثلاثة ايام متواصلة. يعود الى البيت ليستحم وينام دون ان ينطق بكلمة. لا يرد على احتجاجاتها. تقول ان هذه ليست حياة. كأنها تعيش وحدها او كأنها ارملة. يرسم ظل ابتسامة محاولا استبعاد تلك الصور والصرخات.” الحرب والحياة تغتال الحرب حياة هذه العائلة، التي تنهار فجأة بعد موت الأب جراء إحدى القذائف، ثم تذهب الأم مع أطفالها إلى قريته في الجنوب حيث تقام هناك مراسم العزاء، ويستمر السرد ليقدم صورا من تلك المرحلة التي تعتبر التحول المفصلي الذي ستنبني عليه سائر الأحداث. ولا تتوقف هذه المأساة عند هذا الحد، بل تمتد لمعاناة أكبر مع سفر الأم إلى كندا، بعد سماعها لنصيحة عائلتها بأن تأتي هي أولا، ثم تقوم بأخذ صغارها. ويمر العام تلو العام ويظل الأبناء في رعاية جدهم، يعيشون حياة القرى القائمة على زراعة الأرض، وتقشف العيش، يدخلهم جدهم في مدارس ودور أيتام تابعة لرهبان وراهبات . كان الولد روبير يعمل في الدير ويدرس والبنت كاميليا تعمل وتدرس في الميتم أيضا أما الأخت الصغرى الطفلة جاين فبقيت في البيت في البداية. وتسترسل حايك في وصف حياة القرية، وأثرها على الأطفال، لنقرأ : “روبيريركض في الحقول ويركب الحمار مع الأولاد، كما يرافق ابن عمته ميخائيل الذي يكبره بخمس سنوات إلى صيد الحجل في الوادي”. أما الابنة “كاميليا”فقد اعتادت أجواء القرية بعد سفر والدتها،بحيث تصفها جدّتها: قائلة “تتسلّق الأشجار لتطاول الفاكهة العالية. ضربات مطرقتها فوق كيس الزعتر أقوى من جدّتها. تنقي البرغل، وتسطّح التين في الشمس، وتعدّ ربّ البندورة”. وإلى جانب وصف العلاقة مع الأرض الذي يحضر كثيرا سواء في علاقة الجدين مع الأرض، أو في علاقة الأحفاد الثلاثة مع الأرض، فإن هناك انشغالا واضحا في تصوير الحرب الأهلية، بكل بشاعتها وتشوهاتها التي تركتها على الأماكن والبشر، وتأتي كتابة حايك عن الحرب دامجة بين الواقع والخيال في براعة سلسة، لنقرأ هذه المقاطع : طلب «متري» (ابن عمّة روبير) من رفاقه الحزبيين ورقة لتسهيل مرور جثمان خاله. يمدّ السائق أوراقاً يتفحّصها مسلحون ملتحون ثمّ يدخلون رأسهم من شباك السيارة ويتأمّلون أرملة جميلة تنام في حضنها ابنة لم تتجاوز الخامسة. تستقر بعض العائلات البيروتيّة في الضيعة. المدرسة مقفلة. في واحد من الأحياء وَلد أصغر من «روبير» يحمل رشاشاً ويصوّب باتجاه كلب أعرج. ليس مشهداً غير مألوف. في الملجأ، الذين لم يموتوا من القصف سيميتهم هنا الجوع والعطش وعدم النوم. الجنود صادروا مبنى الحضانة وحوّلوه إلى مكان للاعتقال.. يقول شارل إنه صديق للجميع، وكل الحواجز تعرفه، ويأتي للمسلحين بهدايا من الشركة المتخصّصة في شحن البضائع. لكنه خُطِف ورفيقه ثم تركا مذبوحَين في المطار. تتعالى أصوات الانفجارات. ما كانوا يجفلون لتلك الأصوات، اعتادوا عليها.” . إلى جانب ما فعلته الحرب التي تركت آثارها على المجتمع اللبناني ككل، يمكن للقارئ التوقف عند أثر الحرب الملموس على هذه العائلة الصغيرة التي تفرق شملها، وإذا كانت الحرب مرصودة في أغلب كتابات الروائيين اللبنانيين، فإن ما يتميز في رواية ” رسالة من كندا” هو تقديم هذه المأساة مع تركيز بؤرة السرد على أحاسيس الأولاد الثلاثة، يمكن ملاحظة هذا مع شخصية الطفلة كاميليا،وما يتوفر في سردها من عمق، إن علاقة الأطفال بأمهم الغائبة التي ينتظرون عودتها في كل عام من أكثر المناطق الموجعة في النص، وإن كانت هذه التيمة في الكتابة ليست جديدة على رينية حايك، التي تتميز أعمالها بوجود قدر عال من الروحانية والعمق في التحليل النفسي، لتقديم معاناة أبطالها بموضوعية شديدة بعيدة عن الزيف؛ بحيث لا تبدو حايك أنها ترسم مصائر الأبطال بقدر ما تأتي هذه المصائر كنتاج طبيعي لحيواتهم المضطربة. تنتهي الرواية مع الأمل المعلق بعودة الأم الغائبة التي تزوجت في كندا، وصار لديها طفل. يعيش الأولاد الثلاثة في انتظار عودتها التي ستحدث في يوم ما، هكذا ينتظرون وينتظرون إلا أن هذه العودة لا تتحقق لسبب أو لآخر، وكما لو أن رينيه حايك بهذه النهاية، أرادت التلميح إلى أن الغائب لا يعود، حتى وإن كان حيا يرزق، فإن غيابه المادي والمعنوي عن واقع الأشخاص المعنيين بأمره، يصير أكثر حقيقية من وعد العودة المؤجل باستمرار. وإلى جانب هذا الغياب ثمة ربط بين رحيل الأم ورحيل السلم العائلي بنهاية حياة رغدة كان يعيشها الأولاد قبل موت أبيهم، وبالتالي غياب السلم الشامل عن لبنان، البلد الذي لا تنتهي فيه الحروب حتى توشك على العودة. تظل الإشارة إلى لغة الكاتبة التي تتميز بالبساطة والسلاسة البعيدة عن الإطناب، بل إن جملها قصيرة، ومعبرة، من دون مباشرة، ولعل هذه القدرة على التعبير التي يتميز كتابات حايك بين سائر الأعمال الروائية اللبنانية، منحتها خصوصية غير موجودة في روايات لبنانية أخرى تناولت الحرب.