لندن ـ وكالات
من الصفحات الأولى يقدم لنا مايكل أكسورثي، الدبلوماسي السابق، الذي ترأس قسم الشؤون الإيرانية بوزارة الخارجية البريطانية لمدة عامين، نفسه كمحب متحمس لإيران. ويطالعنا إعجابه بكل ما هو إيراني، بما في ذلك طريقة طهي الإيرانيين للأرز. وبشكل ما يمكن النظر إلى الكتاب كرسالة حب إلى الإيرانيين، ومن بينهم بعض الحكام الحاليين للبلاد الذين يصعب حبهم. إذا وضعنا هذا جانبا، سنجد الكتاب مثيرا للاهتمام لسببين؛ السبب الأول هو أنه غني بالتفاصيل، وينم عن اجتهاد الكاتب في البحث، ويعرض الكثير من المعلومات حول أحداث رئيسية خلال العقود الثلاثة الماضية منذ تولي الملالي السلطة وتأسيسهم للجمهورية الإسلامية. وفي هذا السياق، استعان أكسورثي بالكثير من المصادر الإيرانية بفضل خبرته العملية باللغة الفارسية، ومعرفته بالتوجهات السياسية والثقافية في البلاد، وبذلك كان قادرا في الكثير من القضايا على فهم وجهة النظر الإيرانية، وهو ما يعد ميزة نادرة بين الغربيين الذين تحدثوا عن قصة إيران. ولأكسورثي كتابان آخران عن إيران، أحدهما بعنوان «Empire of the Mind» (إمبراطورية العقل)، وهو كتاب ممتع للغاية تمكن فيه من تناول موضوعه بتعاطف، ويقدم لنا رواية دقيقة منصفة للبنى الأساسية في الدولة والاقتصاد الإيراني، والاتجاهات الخفية الاجتماعية، وجوانب السياسة الإيرانية. مع ذلك السبب الثاني الذي يجعل كتاب «إيران الثورية» مثيرا للاهتمام هو أنه يسلط الضوء على الطريقة التي ينظر بها قسم كبير مهم من النخبة المفكرة في الغرب إلى حضارتهم وعلاقتهم بباقي العالم. أي بكلمات أخرى، نرى في هذا الكتاب رؤية غربية مختلفة للعالم؛ إذ إن أكسورثي يرفض الفكرة الراسخة في الغرب بأن كل الإنسانية تتطلع إلى، أو ينبغي أن تتطلع إلى نموذج الحرية والديمقراطية واقتصاد السوق الحر الغربي. وبهذا يختلف أكسورثي مع فرانسيس فوكوياما وتوقعه نهاية التاريخ بانتصار النموذج الغربي الديمقراطي. يكتب أكسورثي: «منذ اندلاع الثورة الإيرانية، اضطر الغرب وأوروبا إلى تغيير مواقفهم تجاه باقي العالم. في الماضي كنا نميل إلى التفكير في التنمية الأفقية في الشرق الأوسط وغيره من المناطق باتجاه نموذج اقتصادي واجتماعي غربي، والفكرة الغربية عن العصرية، بعيدا عن تقاليد حياة شعوب تلك الدول التي كان ينظر إليها باعتبارها متخلفة ومتأخرة». ويبعث أكسورثي رسالته من خلال التنبؤ بـ«هيمنة» محتملة لنماذج أخرى، من بينها النموذجان الصيني والهندي في العالم الذي تحكمه العولمة. ويقول: «لم يعد النموذج الغربي هو الخيار الوحيد». ونلمح في هذا أصداء لخطاب «المرشد الأعلى» الإيراني علي خامنئي المتكرر. وفي تحليل كاشف جدا يقارن أكسورثي بين ثورة الخميني والثورة الفرنسية والثورة البلشفية في روسيا. ويؤكد أن الثورة الفرنسية فشلت في النهاية بسبب الآيديولوجية العلمانية المتطرفة التي يمكن وصفها بالإلحادية. كان ما قدمته الثورة مختلفا كثيرا بالنسبة إلى الفرنسيين الذين ظلوا مخلصين لثقافتهم المسيحية ومنظومة معتقداتهم. وفشلت الثورة البلشفية لأسباب مشابهة، فهي أيضا كانت متعارضة مع ثقافة الروس المسيحية. على الجانب الآخر، كانت ثورة الخميني متناغمة مع التقاليد الإسلامية للشعب الإيراني، لذا كتب لها الاستمرار والإبقاء على استقرار النظام. في هذا التحليل نلمح أصداء محاضرة ألقاها محمد خاتمي، الرئيس الإيراني الأسبق، في جامعة فلورنسا منذ عقد. وأوضح خاتمي خلال تلك المحاضرة أن النموذج الغربي للتطور والتنمية قد مني بالفشل لأنه تخلى، تحت تأثير عصر التنوير، عن المعتقدات الدينية. وقال إن التنوير أصاب البشرية بحروب ومآس لا نهاية لها. الأكثر غرابة هو تأكيد أكسورثي أن طرح سؤال أخلاقي جوهري في الجمهورية الإسلامية أسهل من طرحه في الغرب. ويتذكر أكسورثي: «كتب سارتر ذات مرة أن الفرنسيين كانوا أكثر حرية تحت الاحتلال النازي، حيث لم يكن الاختيار الأخلاقي وخطورة العواقب بالحدة التي كان عليها في ذلك الوقت. ويصدق هذا على إيران. في الدول الغربية يرى الكثيرون أننا نحصل على كل شيء بسهولة وأصبحنا كسالى معنويا وأخلاقيا، ونؤمن بالنسبية، ونتجه للانتقاد اللاذع. وفي إيران أمور أساسية مثل الصواب والخطأ والحرية والقمع تعد جزءا من النقاش اليومي والاختيار. بطريقة أخرى، لا يدرك الإيرانيون، الذين تلقوا تعليما عاليا ويقدر عددهم بـ150 ألفا ويغادرون البلاد كل عام، مما يؤدي إلى أكبر هجرة للعقول في التاريخ بحسب البنك الدولي، الأمور الجيدة التي يتركونها في إيران. دعونا نتذكر أن سارتر تحت الاحتلال النازي استمر في العيش حياة مريحة من التأمل الفلسفي، في حين كان يحمل آلاف الرجال والنساء الفرنسيون السلاح من أجل طرد المحتل. وبعد تعامله مع علاقات إيران بالعالم الخارجي، ينفي أكسورثي مزاعم الحكومة الأميركية وحكومات الدول الأوروبية بأن الجمهورية الإسلامية راعية الإرهاب الدولي، وتمثل تهديدا لدول الجوار والدول الأخرى». يساء فهم إيران، كما يؤكد أكسورثي، رغم أنها ساعدت في تأسيس أنظمة شبه ديمقراطية جديدة في أفغانستان والعراق. ويشير أكسورثي إلى أن برنامج إيران النووي مثير للقلق، لكنه يؤكد لنا أن إيران «لن تستخدم سلاحا نوويا ضد إسرائيل أو أي بلد في ضربة أولى». ولا تزال إيران، كما يرى، تريد سلاحا نوويا بهدف الردع. ومن غير الواضح سر ثقته إلى هذا الحد. إنه يعتقد أيضا أن القوى الغربية، خاصة الولايات المتحدة، هي المسؤولة عن العلاقات السيئة مع الجمهورية الإسلامية. وفي بعض الحالات ساهمت الاعتبارات الشخصية لصناع القرار في الغرب في خلق توجه سلبي في التعامل مع إيران. على سبيل المثال رفض الرئيس جورج بوش الابن التقارب مع إيران لأنه لم يكن يريد «المخاطرة بالسياسة الخارجية» قبل حملته الانتخابية التي كان يسعى من خلالها للفوز بفترة رئاسية ثانية. وكان وزير الخارجية خلال فترة حكم كلينتون، وارن كريستوفر «بشكل خاص عدوانيا تجاه إيران» لأسباب شخصية. ويتعلق الكشف المثير للاهتمام الذي يقدمه لنا أكسورثي بالسياسة الأميركية تجاه إيران. ويكتب: «بعد انهيار الاتحاد السوفياتي كانت هناك مشكلة بطالة داخل الدولة الأميركية. وكان المتخصصون في شؤون الدول الشيوعية، خاصة الاتحاد السوفياتي، يبحثون عن عمل. ووجد بعضهم ضالته في السياسة تجاه إيران، لكن مع الأسف حملوا معهم جزءا كبيرا من أفكارهم السابقة دون مراجعتها، ووضعوا إيران محل الاتحاد السوفياتي السابق، ووصفوا الجمهورية الإسلامية بالشمولية والتوسعية والمحكوم عليها بالفشل بطبيعة الحال، ولم يكن هذا بالضرورة صحيحا». وهذا بالضبط التحليل الذي قدمه عدد من المنظرين في طهران من بينهم حسن عباسي، المحاضر في الاستراتيجية بكليات الحرس الثوري الإيراني. ويتفق أكسورثي مع رأي وزير الدفاع الأميركي، تشاك هيغل، بأن إيران «دولة ديمقراطية بشكل ما». من المؤكد أن الديمقراطية الإيرانية ليست مثالية كما يعترف أكسورثي. مع ذلك يمكن قول هذا على الديمقراطية البريطانية. ويكتب: «على سبيل المثال قال البعض إن بريطانيا لم تعد دولة ديمقراطية منذ غزو العراق عام 2003، وتظاهر كثيرون ضد الغزو، وأشارت استطلاعات الرأي إلى معارضة الغالبية العظمى له». ينسى أكسورثي أن في دولة ديمقراطية مثل بريطانيا يتم اتخاذ القرارات في برلمان منتخب لا بضغط من مسيرات حاشدة في الشوارع أو نتائج استطلاعات رأي. وحتى في ذلك الوقت كان للناس في بريطانيا حرية التظاهر ضد الحكومة، وهو أمر محظور في الجمهورية الإسلامية. كذلك في بريطانيا يمكن لأي شخص إجراء استطلاع رأي، في حين أن القيام بهذا في الجمهورية الإيرانية أمر يؤدي بفاعله إلى السجن. ويكتب أكسورثي: «هناك أسباب حقيقية تدعو إلى كراهية بعض عواقب النموذج الغربي وفكرة الغرب عن العصرية. الإدمان والتفكك الأسري وانهيار القيم الأخلاقية والتقاليد والتنميط وتسفيه الثقافة العالمية من خلال النمط الاستهلاكي...». مع ذلك تعد حقيقة قدرة أكسورثي على انتقاد النموذج الغربي بحرية من دون أن يتعرض للتعذيب أو النفي خارج البلاد، أو الاثنين، دليلا على أفضلية النموذج الغربي على نموذج الخميني الذي يتعامل مع منتقديه ومعارضيه بالطريقة نفسها التي تتعامل بها كافة الأنظمة الشمولية. وفي النموذج الغربي يتمتع المرء بحرية الاختيار، لكن ليس عليه اختيار الإدمان أو التفكك الأسري أو النمط الاستهلاكي. ويعبر أكسورثي عن قلقه من حرية الاختيار في الغرب بقوله: «مشكلة التحرر ونموذج الحرية السياسية بوجه عام يؤثران علينا جميعا. وربما ينتهي الحال بالناس إلى اختيار الأمور التي لا ينبغي عليهم اختيارها لأنها تؤذي المجتمع». ليس هذا جديدا، فكل الآيديولوجيات الشمولية تستخدم كلمات مثل «الطبقة» أو «الأمة» أو «مجتمع المؤمنين» أو «المجتمع»؛ من أجل فرض قيود على الحرية الشخصية والاختيار. في إيران، يحاول نظام الخميني تحقيق ذلك من خلال ما يسمى بـ«ولاية الفقيه» التي يكون للملا بموجبها وباسم الإسلام اليد الطولى في كل الأمور، ويجوز له منع الناس، نظريا على الأقل، من إساءة استخدام الحرية بالطريقة التي يقلق أكسورثي بشأنها. وفي حقبة الاتحاد السوفياتي كان هذا الدور من نصيب المكتب السياسي للحزب الحاكم ورجاله باسم «البروليتاريا». وفي ألمانيا النازية كان «الفوهرر» يمنع إساءة استخدام الحريات الشخصية باسم الجنس الآري. وفي إيطاليا اختار موسوليني مفهوم الدولة «الرومانية» الأسطورية للهدف نفسه. وربما يكون هذا خاطئا، لكن على عكس ما يعتقد أكسورثي، أعتقد أن هناك عددا قليلا من الإيرانيين الذين يتمنون التمتع بالحريات التي يتمتع بها غيرهم في «الغرب الفاسد الذي يوشك على الانهيار». إنهم يتمنون حرية الاختيار وتحمل مسؤولية خطاياهم ودفع ثمنها، لكنهم مجبرون تحت حكم الخميني على دفع ثمن خطايا الحكام الذين فرضوا أنفسهم عليهم.