أبو ظبي ـ وكالات
في دروس الجغرافيا، ربما هي مجرد مجرى مائي، يتجاوز طوله 160 كيلومتراً بقليل، يختصر المسافة بين الشرق والغرب.. لكنها في وجدانات أهلها شريان ليس للإيجار، تاريخ مرويٌّ بدماء الآلاف وعرقهم، وبحر حفرته سواعد فلاحين وأناس بسطاء، أجبروا على ترك حقولهم الخضراء، بلا عودة ربما، لكي يشقّوا الصحراء، ويصلوا بين بحرين، على وقع السياط أحياناً، وعلى أنغام المواويل التي تحنّ للأهل والأحبة البعيدين أخرى.. إنها قناة السويس التي لم يلتفت الى ملحمة حفرها سوى روايات معدودة، من بينها رواية «أيام القبوطي» للكاتبة المصرية سهام بيومي. كما الأدب الحقيقي، تبحث «أيام القبوطي.. الرؤية والمتاهة» عن التاريخ غير الرسمي، وتحاول أن تتخيل ما أهملته أقلام المؤرخين، لاسيما الجنود المجهولين والأبطال الحقيقيين للأحداث، وهم في حدث حفر قناة السويس ليسوا «أفندينا» الخديوي سعيد، حاكم مصر في تلك الآونة، وحاشيته الكبار من سكنة القصور، ولا حتى مهندس المشروع المهندس المهووس بإتمام شق القناة، الفرنسي ديليسبس الذي نصبت له التماثيل، ووضعت على ضفاف قناة السويس، فرواية سهام بيومي تسجل يوميات المنسيين الذين لم ينصفهم مؤرخ، ولم يتذكرهم سوى قليلين. تسجل رواية «أيام القبوطي» مشاهد كثيرة حافلة بالأسى، تصور حال الآلاف ممن كانوا يساقون سوقا إلى العمل في الحفر، تبرز تفاصيل كثيرة عن يومياتهم ومعاناتهم، وتلتقط الكثير مما تثري به الرواية: «بدأت قوافل عمال الحفر تهل ثانية على الفرما وسط توجس الجميع. ولم تمض أيام قليلة حتى تزايدت أعدادهم حتى ملأوا ارجاء الفرما. قامت الكومبانية بإضاءة ساحة الحفر ليتواصل العمل فيها ليل نهار. لم تكن تترك الفرصة للفلاحين القادمين لالتقاط أنفاسهم من مشاق الرحلة الطويلة التي قطعوها حيث جاءوا من قرى الوجهين القبلي والبحري مكدسين في المركب، كانت مجموعات منهم تهبط على حدود الدقهلية ثم تواصل الرحلة سيرا على الأقدام الى رأس الجسر وقرية التمساح. أما الباقون فيواصلون حتى دمياط أو المنزلة ويقودهم مقاولو الأنفار الى ساحات الفرما، وبمجرد وصولهم كان يتلقفهم الملاحظون ورؤساء العمال الذين كانت الشركة تعينهم من بعض مشايخ البلدان والشوام والأتراك، ويوزعونهم على مواقع العمل، ويحددون لهم مقطوعية العمل اليومية، مع التشديد بعدم مغادرة موقع العمل لأي سبب، كما يحددون لهم موعد صرف الطعام ومياه الشرب وقضاء الحاجة، ولم يكن هناك أي حديث عن الأجور... وصدرت تعليمات لرؤساء الانفار بعدم التهاون مع المقصرين في العمل، فارتفعت السياط في مواقع الحفر دون رحمة، ودون تقدير لظروف الانفار الذين يعانون الجوع والعطش والجو الحار». تهتم «أيام القبوطي» بتسجيل حياة متخيلة لأناس عمروا المكان في بورسعيد يوم أن كان اسمها الفرما، ولم يكن هناك ميناء منسوب الى «أفندينا»، تخلد الرواية التي صدرت لها أكثر من طبعة أسماء صيادين وتجار ودراويش استقروا في هذه البقعة، وكانوا شهوداً على زمانين، ونقلت أعينهم مشاهد ما قبل القناة، وما بعدها، وشاركوا مئات الآلاف حكاية «السخرة» من البداية، وتفاعلوا مع مأساة من تم جلبهم الى المكان، وعاشوا أياماً عصيبة، إذ لقي كثيرون منهم حتفهم، بينما حاول آخرون الهرب من ذلك المصير، وعاشوا مطاردين من قبل سلطة باطشة، ولم يستطيعوا العودة الى ديارهم الأصلية، فاستقروا في بلاد أخرى، باحثين عن حياة جديدة. تحمل الرواية التي صدرت منها طبعة خاصة بمناسبة مرور 150 عاماً على افتتاح قناة السويس (1869)، ملامحها المصرية منذ البداية، فالعنوان يحمل اسم «القبوطي»، الذي يعود الى «القبطي» المصري، وكذلك يبرز العنوان منطقة شهيرة في محافظة بورسعيد تحمل ذلك الاسم أيضاً، واشتهرت بجمعها بيوت الصيادين الذين أقاموا في المنطقة منذ سنوات بعيدة، وبكونها محطة على طريق الحجاج الذاهبين الى الأراضي المقدسة لأداء الفريضة، فبطل الرواية الرئيس يبني استراحات لهؤلاء، ويوفر لهم الزاد خلال فترات إقامتهم. حرصت صاحبة «خرائط الموج» سهام بيومي على تشييد عالم رحب في «ايام القبوطي»، ولم تلجأ الى اقحام «المأساة الرئيسة» منذ البداية، بل وضعت مقدمات لذلك، فثمة حياة كاملة، وعائلة تتشعب وتتكاثر، ودرويش يسعى وراء نداء آت من داخله، يتسمّع صداه، يحط في أمكنة عدة، وفي النهاية يستقر في الفرما بزوجته وابنته، ويصادف درويشا آخر، يعيش مع الأسرة ويتزوج الفتاة، وتنجب له ذرية، وتتفرع الحكاية، أخوة وأخوات، منهم من يفتن بحكايات الأب والجد وأساطيرهما عن الفرما وقصص مملكة مطمورة تحت الماء، ومنهم من يدير لذلك الظهر، وتتوالى الأحداث حتى تصل الى محطتها الرئيسة، وهي بداية حفر القناة، ومعارضة العائلة، وكذلك غيرها من سكان المكان، للمشروع، ولمنفذيه الفرنسيين، ولكن يتم اعتقال المعارضين، وعلى رأسهم الأب والجد (القبوطي والفرماوي). يبدأ تنفيذ مشروع حفر قناة السويس بالفعل (1859)، وبعد وساطات يخرج المعتقلون من محبسهم، يشاهدون التغيير الحاصل، وطوابير العمال المجلوبين من قرى مصر، ويرون مأساة كثيرين منهم، ويتشاركون فيها بعد ذلك، لاسيما أن البعض من أهل المكان سيق هو الآخر الى «السخرة». بعكس التيار، يسبح من تحمل الرواية اسمه «القبوطي»، فبينما سلم كثيرون بالأمر الواقع، رفض هو، وفي مشاهد تشبه الأساطير التي كان يحكيها لأبنائه، يختفي الأب القبوطي، ويلجأ الى خيار مغاير لخيارات الكل، إذ يعمل على مساعدة العمال الفارين من السخرة، ويؤمن لهم سبلاً للهروب، والنجاة من مصير أسود، وانضم البعض الى ذلك «الملثم». وبينما كان كثيرون من العمال يلقون حتفهم عطشاً ومرضاً وقهراً خلال حفر القناة، كان هناك على الطرف المقابل آخرون يتاجرون ويستفيدون من ذلك المشروع، ومن بينهم أبناء للقبوطي نفسه، وكأن مأساة الأمس ليست ببعيدة عن مأساة اليوم، فماضي بورسعيد ليس ببعيد عن حاضرها، لاسيما بدايات سياسة الانفتاح في السبعينات من القرن الماضي، حينما تحولت المدينة الى منطقة حرة، فاستفادت قلة، وصارت في سنوات متخمة بالثراء، بينما بقي كثيرون على حالهم، لا يجدون سوى الفتات. تبدو أسرة القبوطي، وكأنها نموذج مصغر للحال المصرية، فلكل فرد من العائلة وجهته الخاصة، فبينما لم يستسلم الأب آثر بعض الأبناء خيارا عكس ذلك، تعايشوا مع الواقع، بل واستفادوا منه، وتوسعت تجارتهم، ووردوا المؤن لشركة حفر القناة، ووجد بينهم أيضا من بدا مهموماً بذاته، باحثاً عن عالمه الخاص، هناك في «المحروسة» القاهرة، كالشيخ الأزهري الذي عمل على توطيد مكانته كعالم وقاض مديراً ظهره لأهله ومن كانوا يأملون فيه خيراً. وأيضاً هناك الابن الذي يذهب ليدرس في الأزهر هو الثاني، ولكن اجتذبته عوالم الموشحات والمنشدين، ولم ينس أهله في الفرما، وعاد اليهم، وشاركهم جزءاً من المأساة، وكان صوته الشجي معبراً عن هموم العمال الذين شاركوا في حفر القناة، وسجلاً لمواويل قادمة من أنحاء مصر المختلفة. واللافت في «أيام القبوطي» هو موقف الأم، والمرأة بوجه عام، التي كان لها دور كبير في حكايات «أيام القبوطي»، إذ كانت تقف بصلابة وقت الأزمات، تجمع النساء، ويحاولن رد المعتدي على المكان، وحينما اعتقل الرجال، قامت الأم والنساء بأدوارهن كما ينبغي، حتى عاد المعتقلون، فالمرأة في الرواية كانت شريكة في الأحداث، وصانعة وموجهة لها في أحايين كثيرة، بل وحملت دلالات رمزية أكثر من غيرها في الرواية.