القاهرة ـ وكالات
حصلت دار «نوفل» اللبنانية على حقوق ترجمة «منصب شاغر» آخر روايات كاتبة الأطفال البريطانية ذائعة الصيت ج. ك. رولينغ مؤلفة سلسلة «هاري بوتر» الشهيرة.. وقد خصت الدار «الشرق الأوسط» بهذه المقتطفات من الرواية التي ستصدر قريبا.. وهذه هي المرة الأولى التي تكتب فيه رولينغ رواية للكبار 1 - كان مجلس باغفورد البلدي يمثل قوة مدهشة بالنسبة لحجمه.. يجتمع مرة في الشهر في قاعة كنيسة فكتورية أنيقة، وجميع المحاولات الجارية منذ عقود للحد من ميزانيته، أو وضع اليد على أي من سلطاته، أو استيعابه ضمن أي هيئة مركزية مستحدثة، اصطدمت بمقاومة شرسة تغلبت عليها وأسقطتها. من بين جميع المجالس المحلية التي يشرف عليها مجلس إدارة «يارفيل»، كان مجلس باغفورد يعتد بكونه الأكثر مشاكسة.. الأعلى صوتا والأكثر استقلالية. كان المجلس يضم حتى مساء الأحد ستة عشر عضوا؛ رجالا ونساء، من سكان باغفورد. وبما أن ناخبي البلدة يفترضون أن مجرد الترشح لمنصب في المجلس البلدي يفترض توافر الكفاءة الضرورية لذلك، فإن جميع أعضاء المجلس الستة عشر فازوا بمقاعدهم دون منازع. غير أن هذه الهيئة «المعينة» بكل هذه الطريقة الودية، تشهد الآن حربا داخلية ضارية. فقد وصلت المسألة التي تثير الأحقاد والضغائن في باغفورد منذ نحو ستين عاما إلى مرحلتها الأخيرة، واصطف الأعضاء في معسكرين متواجهين خلف زعيمين يتحليان بكاريزما عالية. ولكن، من أجل فهم أبعاد الخلاف، لا بد من تبيان حجم الكره والريبة اللذين تكنهما باغفورد لمدينة يارفيل، جارتها الشمالية. كانت يارفيل، بما فيها من متاجر ومؤسسات ومصانع، فضلا عن مستشفى «ساوث وست جنرال»، توظف القسم الأكبر من سكان باغفورد. شباب البلدة الصغيرة كانوا يقضون ليالي السبت بصورة عامة في يارفيل حيث يرتادون دور السينما والملاهي الليلية. كانت المدينة تملك كاتدرائية وعدة متنزهات ومركزين تجاريين ضخمين، وكلها وجهات مثيرة تجتذب كل من يستنفد مفاتن باغفورد التي لا تضاهى. ورغم ذلك، فإن يارفيل لم تكن في نظر سكان باغفورد الأصيلين أكثر من شر لا بد منه. موقفهم تجاه المدينة كانت تختزله التلة العالية وعلى رأسها دير بارغيتر، التي كانت تحجب مشهد يارفيل عن أنظار سكان باغفورد، وتبعث لديهم ذلك الوهم السعيد بأن المدينة أبعد مما هي عليه في الحقيقة. 2 - من سخرية المصادفات أن تلة بارغيتر كانت تحجب أيضا عن البلدة مكانا آخر لطالما اعتبرته باغفورد ملكا خاصا لها، هو قصر «سويتلوف هاوس». كان قصرا ساحرا عسلي اللون شيد على الطراز المعماري الذي كان شائعا في عهد الملكة آن، ويتوسط هكتارات من الحدائق والأراضي الزراعية، في منتصف المسافة ما بين البلدة ويارفيل. توارثت عائلة سويتلوف الأرستقراطية القصر من جيل إلى جيل على مدى نحو مائتي عام دون أي عقبة، إلى أن انقرضت في أوائل القرن العشرين. أما كل ما تبقى اليوم من تلك الحقبة الطويلة التي ارتبط فيها تاريخ عائلة سويتلوف بباغفورد، فمدفنٌ مهيب، الأكثر فخامة في مقبرة كنيسة سانت مايكل وجميع القديسين، فضلا عن بعض الشعارات وأختام على سجلات محلية ومبان، وآثار خطى وروث متحجر خلفته كائنات نفقت. بعد وفاة آخر أحفاد أسرة سويتلوف، انتقلت ملكية القصر بسرعة مخيفة. كان سكان باغفورد يخشون باستمرار أن يستحوذ متعهد عقاري ما، على هذا الموقع التاريخي العزيز على قلوبهم ويشوهه. مضى الوقت، ومع حلول الخمسينات، اشترى رجل يدعى أوبري فاولي المكان. تبين، بعد فترة قصيرة، أن فاولي يملك ثروة شخصية طائلة، يمولها من أنشطة وعمليات غامضة في لندن. كان له أربعة أولاد، وكانت لديه رغبة في الاستقرار هناك بشكل دائم. كانت باغفورد راضية عنه، غير أن هذا الرضا تحول إلى افتتان حقيقي حين سرت معلومات سرعان ما عمت البلدة، بأن فاولي ينحدر في الواقع من سلالة متفرعة عن أسرة سويتلوف. كان ذلك كافيا لاعتباره عمليا من سكان باغفورد الأصيلين؛ رجل يدين فطريا بالولاء لباغفورد وليس ليارفيل. كانت البلدة القديمة على ثقة بأن قدوم أوبري فاولي يعني عودة عهد ذهبي ما. سوف يكون الساحر الطيب عراب البلدة، على غرار أسلافه قبله، يغدق تألقا وأبهة على شوارعها المكسوة بالحصى. ما زال هاورد موليسون يذكر كيف دخلت والدته ذات صباح مطبخهم الصغير في منزلهم بشارع هوب، لتعلن لهم أن أوبري دُعِي ليترأس لجنة التحكيم في معرض الزهور المحلي. كانت لوبياء السيدة موليسون فازت على مدى ثلاث سنوات على التوالي بالجائزة عن فئة الخضراوات، وهي تتطلع لتسلم إناء الورود المطلي بالفضة من يدي الرجل الذي بات يجسد في ذهنها رومانسية فاتنة من زمن ولى. 3 - غير أن الظلمة أرخت ظلالها فجأة على البلدة، بحسب ما تقول الرواية المحلية، تلك الظلمة التي تحل عند ظهور الساحر الشرير. فيما كانت باغفورد تحتفي بوقوع قصر سويتلوف هاوس في أيد أمينة، كانت يارفيل منهمكة في بناء مجمع ضخم من المساكن المخصصة للحالات الاجتماعية في جنوب البلدة. عم الاضطراب باغفورد حين علمت بأن الشوارع الجديدة تقضم مساحات من الأراضي الواقعة بين البلدة والمدينة. الكل كان يعي أن الطلب على المساكن المتدنية التكلفة ازداد بشكل مطرد منذ الحرب.. لكن بعدما انشغلت البلدة لفترة بوصول أوبري فاولي، راحت تضج بالشائعات المريبة بشأن نوايا يارفيل الحقيقية. أخذت المنازل الصغيرة من حجر القرميد الأحمر ترتفع بسرعة وتنتشر، فبدا للسكان أن الحدود الطبيعية التي يرسمها النهر والتلة بدأت تتداعى أمام هذا التوسع، بعدما كانت تقف ضمانة لسيادة باغفورد. شغلت يارفيل كل شبر من أراضيها.. ملأت كل الثغرات، وتوقفت عند الحدود الشمالية لبلدة باغفورد. تنفست البلدة الصعداء. لكن هذا الارتياح لم يدم طويلا؛ إذ سرعان ما تبين أن مجمع كانترميل غير كاف لتلبية حاجات السكان، فباشرت المدينة البحث عن أراض جديدة يمكنها الاستفادة منها.. عندها اتخذ أوبري فاولي الذي كان لا يزال في نظر العديد من أهالي باغفورد شخصية أسطورية أكثر منه رجلا من لحم ودم، القرار الذي أثار ضغائن وأحقادا ظلت تتفاعل على مدى ستة عقود. كان لديه بضعة فدادين من الحقول المكسوة بالأعشاب البرية خلف المشروع السكني لم يكن بحاجة إليها، فباعها إلى مجلس إدارة يارفيل بسعر مناسب، واستخدم المبلغ لترميم التلبيسة الخشبية المتداعية في قاعة الاحتفالات في قصر سويتلوف. ثار غضب باغفورد. لطالما كانت حقول سويتلوف عنصرا أساسيا في السور الذي يحميها من مطامع المدينة التوسعية. وها هي حدود البلدة الأزلية في خطر الآن؛ إذ ستجتاحها حتما موجة من المعوزين والجياع المتهافتين من يارفيل. اجتماعات عامة صاخبة.. رسائل شكاوى شديدة اللهجة إلى الصحيفة المحلية ومجلس يارفيل.. رفع احتجاجات شخصية لدى الجهات المسؤولة.. حاول سكان البلدة بكل الوسائل الممكنة، غير أنهم لم يفلحوا في منع المشروع. استؤنف بناء المساكن الشعبية، ولكن بفارق جلي، وهو أن مجلس إدارة المدينة أدرك خلال الفترة التي فصلت بين المشروعين، أن بوسعه بناء مساكن أدنى تكلفة. وبالتالي، فإن البيوت الجديدة لم تشيد بحجر القرميد الأحمر، بل بالإسمنت المصبوب في أطر وهياكل فولاذية. عرف هذا المجمع الثاني محليا باسم «الحقول»، مثل الأملاك التي شيد عليها، وتميز عن مجمع كانترميل بنوعية مواده المتدنية وتصميمه المعماري الرديء. ولد باري فيربراذر في أواخر الستينات، في أحد منازل الحقول هذه، المصنوعة من الإسمنت والفولاذ، التي كانت قد بدأت في تلك الفترة تتشقق وتلتوي. 4 - على الرغم من التطمينات الفاترة التي انتزعت من مجلس إدارة يارفيل حول أنه يتحمل كامل المسؤولية عن صيانة المجمع الجديد، فإن باغفورد بدأت بعد فترة قصيرة تتلقى فواتير جديدة، وهو ما توقعه سكانها الغاضبون منذ بداية القضية.. إذ كانت معظم الخدمات الخاصة بمجمع «الحقول» وإصلاح بيوته وصيانتها تقع على عاتق مجلس إدارة يارفيل، إلا أن المدينة، لشدة «كرمها»، تنازلت لرعية باغفورد عن بعض مهامها، مثل صيانة مسالك المشاة، والإضاءة والمقاعد العامة، وملاجئ الحافلات والأملاك المشتركة. انتشرت الكتابات على الجدران، فغطت الجسور التي تربط باغفورد بيارفيل. تم تحطيم عدد من محطات توقف الحافلات في مجمع الحقول. فتيان المجمع حولن ملعب الأطفال مكبا لزجاجات البيرة، ورمين مصابيح الشوارع بالحصى. تحول مسلك للمشاة يرتاده المتنزهون والسياح، ملتقى لشباب الحقول يتجمعون فيه، بل لما هو «أسوأ من ذلك» كما تقول والدة هاورد موليسون؛ مفسحة المجال لأكثر التأويلات شؤما. كان إذن مجلس بلدة باغفورد مسؤولا عن عمليات التنظيف والإصلاح والاستبدال، وبدا جليا منذ البداية أن الأموال التي وافقت يارفيل على تقديمها غير متكافئة مع حجم النفقات والوقت المطلوب لإصلاح الأضرار. لكن، من بين كل الأعباء التي اضطر سكان باغفورد، مرغمين، إلى تحملها، وأكثر ما أثار غضبهم ونقمتهم، هو أن أطفال مجمع الحقول كانوا ملحقين، بحسب التقطيع الجغرافي، بمدرسة سانت توماس الابتدائية. بات من حق أطفال الحقول أن يرتدوا البدلة المدرسية الزرقاء والبيضاء المرموقة.. أن يركضوا في الملعب، إلى جانب حجر الأساس الذي كانت اللايدي شارلوت سويتلوف هي من وضعته، وأن يتشدقوا في قاعات الصفوف الصغيرة بتلك النبرة الحادة الخاصة بلهجة أهالي يارفيل. سرعان ما بدا جليا للجميع في باغفورد أن مساكن المجمع الشعبي باتت الهدف الأسمى الذي تطمح إليه أي عائلة من يارفيل تعيش على حساب برامج المساعدات الاجتماعية، ولديها أطفال في سن الدراسة، وأن ثمة حركة تهافت كثيفة لعبور الخط الفاصل بين مجمع كانترميل ومجمع الحقول، تذكر بتدفق المكسيكيين إلى تكساس.. مدرستهم الصغيرة التي كانت تجتذب الموظفين العاملين في يارفيل بصفوفها الصغيرة ومكاتبها المغلقة بغطاء جرار، ومبانيها الحجرية القديمة، وملعبها الرياضي المكسو بالعشب الأخضر الكث.. مدرستهم الرائعة، سوف تجتاحها موجة عارمة من المتسولين والمدمنين والأمهات اللاتي أنجبن أطفالهن كلا من والد مختلف. يبقى أن هذا السيناريو الكارثي لم يتحقق تماما، لأن حسنات مدرسة سانت توماس الجلية كانت تقابلها مساوئ كفيلة بتثبيط عزيمة العديد من الطامحين للانتساب إليها؛ إذ كان يتحتم شراء البدلة المدرسية، أو، في حال تعذر ذلك، ملء كثير من الاستمارات بهدف الحصول على مساعدة مالية من أجل شرائها، وتسديد رسوم الاشتراك في خدمة الحافلة المدرسية والنهوض باكرا لضمان وصول الأطفال إلى المدرسة في الوقت المناسب. شكلت هذه القيود عقبات لم تتمكن بعض أسر «الحقول» من تخطيها، ففضلت إرسال أطفالها إلى المدرسة الابتدائية الكبيرة التي شيدت مع المجمع الشعبي والتي لا تفرض على تلاميذها ارتداء بدلة. يبقى أن معظم تلاميذ «الحقول» الذين انتسبوا إلى مدرسة سانت توماس اندمجوا تماما مع رفاقهم في باغفورد. بل ينبغي الإقرار بأن بعضهم كان في غاية التهذيب. ومن بين هؤلاء الأطفال باري فيربراذر الذي تقدم بنجاح من صف إلى صف، فكان تلميذا شعبيا محبوبا، مفعما بالفطنة والمرح والذكاء، وبالكاد كان يلاحظ، في بعض الأحيان، أن ابتسامة أهالي رفاقه المنحدرين من باغفورد كانت تتشنج ما إن يذكر مكان إقامته.