موسكو - حسن عمارة
تقف الروسية السمراء، ناديجدا أوسياك، في أوائل الخمسينات من عمرها بين أطفالها الـ 18، متذكرة آلام الولادة، مشيرة إلى أنّ "الأمر لا يصبح سهلًا على الإطلاق، ويطلق عليه العمل من أجل سبب ما"، إلا أن قوامها الممشوق يتناقض مع إنجازاتها المدهشة فيما يتعلق بالأمومة، وتضيف أوسياك أنها "أنجبت 15 طفلًا بطريقة طبيعية و3 ولادة قيصرية، هؤلاء الثلاثة كانوا بمثابة عطلة"، وحصلت أوسياك وزوجها إيوان، 53 عامًا، الكاهن في الكنيسة الأرثوذكسية الروسية على طفلهما الأول عام 1984 قبل وصول ميخائيل غورباتشوف إلى السلطة في الاتحاد السوفيتي، إلا أنها بحلول عام 2009 كانت الشيوعية والاتحاد السوفيتي مجرّد ذكريات سابقة وبعيدة.
وأوضح الأب إيوان أن الحبّ هو السبب في الحصول على مثل هذه العائلة الكبيرة وهو يربت على يد زوجته ويحدق في وجهها الذي إحمرّ خجلًا، ويعدّ إيوان ذو اللحية البيضاء الكبيرة مثالًا للشخص المفتون بزوجته، وعائلة أوسياك، هي استثنائية بكل المقاييس نظرًا للمتاعب التي واجهها الزوجين إلا أن روسيا اليوم تمنح العائلات أهمية إضافية.
وتبيّن لصناع السياسة الروسية، في فترة من الوقت، أن البلاد تواجه أزمة ديموغرافية، حيث تقلّص عدد السكان بعد تفكيك الاتحاد السوفيتي بمعدل 700 ألف شخص في العام، وفقدت البلاد بين عامي 1992 و2009 نحو 6 ملايين شخص ما يعادل 4% من سكانها، وفي المرحلة النهائية من التاريخ الروسي بدا الأمر وكأنه حربًا نووية، في ظل وجود عدد قليل من المواليد الأحياء لتعويض معدّل الوفيات وتراجع عدد السكان بشكل كبير
ودقّ الرئيس فلاديمير بوتين ناقوس الخطر في هذا الشأن خلال حملة الانتخابات الرئاسية عام 2012، مشيرًا إلى أنّه "نواجه خطر التحوّل إلى مساحة خالية حيث لن يمكننا تقرير مصيرنا، إنها مشكلة مظلمة وتعود جذورها إلى الحرب العالمية الثانية وعمليات التطهير والمجاعة من صنع الإنسان في الاتحاد السوفيتي في فترة الثلاثينات".
واقترحت الحكومة حلًا محتملًا وبسيطًا مثل ما فعلته عائلة أوسياك وإنجاب المزيد من الأطفال، وحتى الآن يمثل اختيار الحكومة الروسية للشهوة الجنسية مزيجًا من الأموال والدعاية، ومنذ عام 2007 يتم إعطاء المال إلى الوالدين عند ولادة طفلهم الثاني والثالث، وتأسست جائزة خاصة "وسام المجد الأبوي " عام 2008، حتى أن العائلات التي لديها 7 أطفال فأكثر يتم دعوتها إلى الكرملين ويحصلون على ميدالية من الرئيس نفسه، وكانت عائلة أوسياك أول من حصل عليها، وتتذكر ناديزدا ذكريات جميلة للحفل حيث أعطاها الرئيس ديمتري ميدفدييف بنفسه الميدالية خلال السنوات الأربع التي رأس فيها الكرملين بين فترات حكم بوتين، ويتذكّر الناس تقديم جائزة ممثالة في عهد الاتحاد السوفيتي، وكانت والدة إيوان واحدة ممن حصلن عليها، حيث تنتمي إلى عائلة مكوّنة من 18 شخصًا، وفي ظل الإشادة بخصوبة السيدة أوسياك وقف دينها عائقًا في ظل الجو الإلحادي الذي انتشر في الاتحاد السوفيتي.
ويذكر الأب إيوان الكثير من الذكريات الخاصة بالتعصّب الديني وخاصة عند ذهاب والدته لشراء مواد البناء إلى منزل العائلة إلا أنه تم إبعادها عن المتجر خالية الوفاض، حيث نفر منها البائع قائلا "الله سيساعدك"، وتغيّرت الأيام وتعيش عائلة أوسياك حاليا في منزل هائل على مشارف المدينة الساحلية الجنوبية، روستوف على نهر "دون" بفضل التبرّعات السخية من أغنى الناس في البلاد، ويعكس تغيّر ثروات الأسرة عودة الدين إلى البلاد، ويبدو أن الكنيسة الأرثوذكسية الروسية وحكومة بوتين في حال عشق لبعضهما البعض مثل ناديزدا وإيوان، حيث اعتبر البطريرك كيريل رئيس الكنيسة قيادة بوتين "معجزة من الله"، وعلى الرغم من ماضي بوتين كعضور في "KGB" وهي منظمة اضطهدت الكهنة والمؤمنين إلا أن الأب إيوان تجاوز عن ذلك من أجل الرئيس قائلا عنه إنّ "هذا الرجل مثل والدي إنه يعتني بالبلاد والعائلات الكبيرة"، من جانبه يعوّل بوتين على العائلات الكبيرة لتأمين مستقبل روسيا.
ويحظى الأب سيرغي كراسنيكوف، 42 عامًا، وزوجته إيكاترينا، 37 عامًا، بـ 7 أطفال و 9 أخرين بالتبنّي ، واتبع المصلّون في كنيسته في روستوف نفس النهج وقاموا بتبني أطفالًا من ذوي الإعاقات العقلية والجسدية، وينتمي الأب سيرغي إلى تراث "Don Cossack" ما يعني أنه ينحدر من عشائر المحاربين الذين دافعوا عن حدود روسيا، ويتبع النسخة القوية من المسيحية وينظم دروسًا ثقافية وتدريبًا عسكريًا نظاميًا للشباب الذين يحضرون في كنيسته، وفي مدرسته الصيفية الأخيرة تعلّم الشباب التعامل مع الأسلحة والقتال بالأيدي، ويحصلون على بعض التطبيق العملي في روستوف على نهر دون حيث يقترب القتال في أوكرانيا بما فيه الكفاية ليكون مسموعًا في بعض الأحيان، ويضيف الأب سيرجي أنّ "روسيا لم تبدأ مطلقًا بالحرب مع دولة أخرى لكننا باستمرار نتعرّض إلى الهجوم لذلك علينا أن نكون مستعدّين، نحن ودودون للغاية ولكن إذا تعديت علينا يجب أن تنتبه".
وكان الأب إيوان وزوجته ناديجدا من أوائل الذين حصلوا على وسام المجد الأبوي من قبل الرئيس، في إطار مبادرة تهدف إلى تعزيز معدّل المواليد في روسيا، وعانت عائلة الأب إيوان بسبب دينها في الاتحاد السوفيتي لكنه اليوم في روسيا أصبح من المشاهير وأب إلى 18 طفلا منهم 8 فتيات "أولغا، إيلينا، ماريا، تاتيانا، آنا، ناديجدا، إيفدوكيا، داريا، كسينيا ، أناستازيا" و10 فتيان "إيفان، أليكسي، إفغيني، ألكسندر، فلاديمير، غريغوري، سيرغي ، سيرافيم"، وتبعه 4 من أبنائه إلى الكهنوت ودرس 5 في معهد ديني، فيما تتناغم قيم العائلة الدينية المحافظة الوطنية مع الحالة المزاجية للحكومة الروسية، ويضيف الأب إيوان أنّ "دول العالم كانت ترى روسيا راكعة على ركبتيها لكنها صعدت وازدهرت مرة أخرى، وسوف يرون جمالها ومرحها وعطفها على الجميع وجميع الدول ستنحني أمامها".
وتبنّت تاتيانا سوروكينا، 66 عامًا، طفلها الأول عام 1975 وكان زوجها الراحل يتيمًا وعزم على إنجاب المزيد من الأطفال نتيجة تجربة نشأته في ملجأ للأيتام، وتحظى العائلة بطفلين مع تبني وحضانة 74 طفلًا، وتوضح تاتيانا أن العائلة تشمل 120 فردًا بما في ذلك الأحفاد، ولديها أيضا 17 طفلًا حاليًا يعيشون معها، وتقول تاتيانا وهي في المطبخ إنّه "يمكنك تأجيل أي شيء إلى الغد فيما عدا تناول الطعام"، ويتواجد حولها أطفالها منتظرين تناول الطعام على الطاولة، ويعد أحدث طفل لديها "كوليا" 5 أعوام، وكان معها لمدة شهرين بعد أن تم رفضه من قبل عائلة أخرى بالتبني، وتخطّط تاتيانا إلى تبنّي 3 أطفال آخرين من دار رعاية في إيركوتسك في شرق سيبيريا، وينتمي بعض أطفالها إلى الفئة المعروفة في روسيا باسم "الأيتام الاجتماعية"، وينطبق ذلك على الأطفال الذين لديهم أبوين على قيد الحياة لكنهم غير قادرين على التعامل معهم، وتعدّ الحياة السابقة للأطفال الذين تبنتهم تاتيانا بمثابة فهرس للمشاكل الاجتماعية المزمنة في روسيا من الفقر وإدمان المخدرات والكحول، وبشكل متزايد يتم وصف الدين باعتباره الحل.