جاك شاهين الأميركي

في هدوء ووداعة تتفق مع شخصه العالم المتواضع رحل عنا قبل يومين عالم الاجتماع جاك شاهين الأميركي من أصل لبناني وأحد أهم علماء العرب في المهجر خلال العقود الأخيرة. تتجاوز وفاة شاهين فقدان عالم متخصص في الاتصال الجماهيري لتصل إلى خسارة واحد من أبرز الأصوات المهتمة بمحاربة التحيز والنمطية والعنصرية ضد العرب والمسلمين في الولايات المتحدة.

وكافح طويلاً لتغيير الصورة النمطية عنهم والتي تقدمهم باعتبارهم "شراً خالصاً"، وبأنهم "إرهابيون معادون لأمريكا" فكانت موسوعته العلمية الفريدة "العرب الأشرار في السينما.. كيف تشوه هوليوود أمة" التي تفرغ لتأليفها على مدار عقدين درس خلالهما أكثر من 1000 عمل فني أنتجته هوليوود عن العرب والمسلمين بما فيها الأفلام السينمائية، والأعمال الوثائقية، والمسلسلات والبرامج التليفزيونية، وحتى أفلام الكرتون المخصصة للأطفال. وحملت هوليوود المسؤولية الأكبر في نشر الصورة السلبية شديدة العدوانية عن المسلمين باعتبارهم "مصدراً للتهديد يستحق القتل بلا رحمة".

الصدفة وحدها كانت وراء نشر أول أجزاء موسوعة شاهين قبل أشهر قليلة من أحداث 11 سبتمبر/أيلول 2001، التي كانت سبباً في إثارة حملة عداء وتحريض وعنصرية هائلة ضد العرب والمسلمين في الولايات المتحدة، وكان هو من الأصوات القليلة العاقلة التي عارضت "هيستيريا" العداء للمسلمين، فتنقل من محطة تلفزيونية إلى أخرى، ومن محاضرة إلى أخرى، ومن مقال صحفي إلى عشرات المقالات المدافعة عن الصورة الحقيقية للعرب والمسلمين رافضاً "تنميط" أمة، ووصمها بالعنف والتطرف والإرهاب بناء على شطط بعض أبنائها.

وستظل صفحات شاهين البيضاء ناصعة في الذاكرة العربية بمواقفه الشجاعة وثباته على آرائه في الوقت الذي انهالت عليه التهديدات للتوقف عن الدفاع عن المسلمين والعرب، كما لم يلجأ الراحل إلى الصمت طلباً للسلامة في وقت كانت فيه الاعتداءات مجانية على كل المدافعين عنهم.

في مقال مفعم بالمشاعر الإنسانية نعى الصحفي الأمريكي ويل يومانس على موقع "arabamerica.com" أستاذه الراحل عن عمر ناهز 81 عاماً معترفاً بتفرده العلمي، إذ كان أول المهتمين بدراسة العلاقة بين السينما والسياسة والتأثيرات المتبادلة بينهما، وكان عمله مصدر إلهام للمئات من بعده الذين تحمسوا بفضل محاضراته في جامعة إلينوي لدراسة الاتصال الجماهيري والإعلام والتخصص في القضايا المتعلقة بالعرب والمسلمين، وبفضل جهده الذي لم يكل، وحماسته التي لم تفتر، التفت كثير من الصحفيين والإعلاميين والأكاديميين إلى ما يثيره من قضايا، ونجحت حجته القوية في إقناع الكثيرين بعدم صحة الصورة النمطية المنتشرة عن العرب والمسلمين.

وأشار يومانس في مقاله إلى محاضرة للدكتور شاهين في المركز الفلسطيني في عام 2014 استعرض خلالها الراحل العقبات المتعددة التي واجهها عند محاولته نشر أولى أوراقه العلمية في السبعينات، التي كان عنوانها "عرب التلفزيون"، وأوضح كيف رفضت عدة دوريات أكاديمية نشرها خوفاً من ردة الفعل "الصهيونية" عليها.

وأضاف أن الدكتور شاهين ثابر لمدة 3 سنوات كاملة حتى نشرت دراسته في دورية لم تكن معروفة حينها. وفي الوقت الذي اعتقد البعض أن صعوبة النشر كانت كافية لدفعه لليأس والتفكير في دراسة موضوعات أخرى قابلة للنشر، تمسك شاهين بفكرته وطورها واستمر في دراستها 20 عاماً بعد ذلك حتى نشرتها دار "إنترليك" للنشر 2001 تحت عنوانها اللافت "العرب الأشرار في السينما.. كيف تشوه هوليوود أمة"، التي نبه فيها إلى مخاطر استمرار الصورة السلبية عن العرب والمسلمين في الولايات المتحدة والتي تتحمل فيها السينما الوزر الأكبر، مشيراً إلى أن الآثار السلبية لتلك الصورة العنصرية امتدت لتؤثر سلباً على الجيل الحديث من أبناء عرب المهجر الذين باتوا خجولين من خلفيتهم العربية.

وتحدث يومانس عن جهد الدكتور شاهين في محاربة التحريض على الكراهية والعنصرية والوقوف ضد تيار "الإسلاموفوبيا" قائلاً: "كان الراحل رائداً في محاربة الصورة الخاطئة عن الإسلام، ودفع ثمن ذلك غالياً بعد تصنيفه أكاديمياً في السبعينات على أنه (الأستاذ العربي)، وكان ذلك سبباً في رفض نشر مقالاته، وصعوبة الحصول على تمويل لدراساته العلمية على الرغم من أنه تمتع بسمعة أكاديمية متميزة قبل اهتمامه بدراسة الصورة العربية في الإعلام الأمريكي".

وأشار يومانس إلى أن الدكتور شاهين كان يكتب دوماً وهو على مقربة من هويته العربية التي لم تؤثر يوماً في حياده العلمي، وقال: "كان جريئاً في رفض وصم العرب والمسلمين بالإرهابيين في الوقت الذي كان الشرق الأوسط يعج بحوادث خطف الطائرات والتفجيرات، إضافة إلى أحداث الحرب الأهلية اللبنانية. واستمر في الاحتفاظ بقناعته حتى بعد انفجار الاتهامات ضدهم التي حملتهم مسؤولية اعتداءات 11 سبتمبر/أيلول".

وأنهى يومانس نعيه لأستاذه شاهين قائلاً: "سأظل أتذكر بكل الامتنان تلك الرسالة المكتوبة بخط اليد التي أخبرتني بفوزي بالمنحة الدراسية التي تحمل اسمك، ولن يغيب عن ناظري أبداً وميض عينيك المشرق، وحماسك الدائم لكل ما تؤمن به. سوف أفتقدك إلى الأبد". يستمر تراث الدكتور شاهين مستمراً في كتبه ومؤلفاته وعبر محاضراته التي بلغت 1000 محاضرة قدمها في جامعات أمريكية ودولية، وفي أكثر من 300 مقال صحفي تتوزع على "نيوزويك" و"وول ستريت جورنال" و"واشنطن بوست" وغيرها، إضافة إلى المنحة الأكاديمية التي تحمل اسمه لدراسة الصحافة والإعلام والتي تمنحها اللجنة الأمريكية العربية لمكافحة التمييز سنوياً.

وكانت البداية المثيرة منتصف السبعينات عندما حصل الدكتور جاك شاهين على منحة من "هيئة فولبرايت" للتدريس في جامعة بيروت في لبنان. كان شاهين المولود في بنسلفانيا لأبوين لبنانيين مهاجرين على عتبة الأربعينات، ولم يكن حتى وقتها قد زار بلد عائلته، أو أية دولة عربية أخرى. كانت تجربته في لبنان كافية لدفعه إلى تكريس كل جهده العلمي وبقية عمره في محاولة لتغيير الصورة النمطية عن العرب والمسلمين فكانت مئات المقالات، وعشرات الدراسات العلمية، التي توجها بموسوعته الفريدة "العرب الأشرار في السينما: كيف تشوه هوليوود أمة" والتي صدرت الترجمة العربية لها 2014 تحت عنوان "الصورة الشريرة للعرب في السينما الأمريكية"، كما تحولت إلى وثائقي واسع الانتشار على مواقع مشاهدة الفيديو على الإنترنت. يتناول شاهين في موسوعته آفة "التعصب" موضحاً أنها مسألة قديمة بين الشعوب، لكن أنواعاً مختلفة من التعصب يمكن تمييزها وأخطرها هو الذي يتم تصنيعه عن عمد ليكون بمثابة إنتاج يكرس نار الكراهية وعدم الثقة بين الشعوب.

ويؤكد شاهين في دراسته أن هوليوود هي الأكثر تأثيراً في جيل الشباب، وهي المصدر الرئيسي للصور الدعائية التي من شأنها أن تدمر وتعزل بعض الأجناس والأعراق. وأشار إلى أنه منذ بداية عصر السينما الصامتة قدمت هوليوود الآخر (العربي تحديداً) كغريب وخطير بالفطرة، أو كمخلوق كريه لا يتشابه مع الباقين، ولهذه الصورة قوة مدمرة مثل الأسلحة الفتاكة.