حركة النهضة التونسية

دخلت حركة النهضة التونسية على خط أزمة داخلية بدأت تطفو على السطح بعد استقالة محمد طاهر شكري أمين عام الحركة في ولاية سيدي بوزيد ، وذلك بعد نحو أسبوعين فقط من اختتام المؤتمر العاشر للحركة الذي شهد انقسامات حادة حول عدد من القضايا الداخلية.

فقد جاءت استقالة شكري لتسكب الزيت على النار من جديد داخل الحركة ، بعد أن نشرها على حسابه على موقع التواصل الاجتماعي "فيسبوك" ، ووجه فيها اتهامات شديدة إلى قيادات النهضة ، مؤكدا أنه لم يعد قادرا على العمل بمؤسسات الحركة وسط أجواء غاب فيها العدل والقانون لصالح المحسوبية والولاءات واصطفافات فقدت كل قيم الحق والأخلاق والتجرد من طرف مجموعة تتحكم شيئا فشيئا في دوائر الفعل داخل الحركة خصوصا بعد المؤتمر العاشر، على حد قوله.

وأثارت استقالة أمين عام حركة النهضة في ولاية سيدي بوزيد تكهنات بقرارات مماثلة من جانب قيادات أخرى ، حيث أرجعت صحيفة "الصباح" التونسية قرار استقالته لعدم وجوده بمكتب الشورى داخل الحركة ، لافتة إلى أن عدد القيادات التي تحمل موقفا مماثلا قد يرتفع إلى 3 من بين أمناء الحركة في الولايات.

في الوقت نفسه ، أصدرت الحركة بيانا نفت فيه تسجيل أية طعون في سير المؤتمر العاشر حول وجود تجاوزات ، معتبرة أن الاتهامات التي وجهت في نص الاستقالة إلى عدد من قياديي النهضة لا أساس لها.

لكن هذا السجال العلني داخل النهضة كشف عن أن الخلافات التي شهدها المؤتمر العاشر للحركة لم تكن وليدة اللحظة ولم تتوقف إرهاصاتها عند حد اختتام أعمال المؤتمر، بل تركت تداعيات وانقسامات بين القيادات الفاعلة فيها، ووصلت إلى حد التحول من حالة السرية التي اعتادت عليها طوال تاريخها، إلى تبادل الاتهامات في وسائل الإعلام وعلى شبكات التواصل الاجتماعي. 

فقد أبدت الحركة تماسكا ملحوظا لا سيما خلال الأزمات التي شهدتها الساحة السياسية خلال السنوات الخمس التي أعقبت الثورة التونسية في ديسمبر عام 2010 ؛ حيث مرت استقالة رئيس الوزراء الأسبق حمادي الجبالي من الأمانة العامة للحركة في عام 2014 ، دون الإدلاء بأية تصريحات عن أسبابها ، كما قدم عبد الحميد الجلاصي نائب رئيس الحركة استقالته في يناير عام 2015 ، ورفض الكشف أيضا عن الدافع وراء قراره ، بل شارك كذلك في المؤتمر العاشر للحركة الذي عقد في مايو الماضي.

وقال الجلاصي ، في تصريحات صحفية عقب اختتام المؤتمر ، " إن صورة العناق التي جمعتني بالشيخ راشد الغنوشي في نهاية أعمال المؤتمر ، تقول : نعم ، إننا نختلف في وجهات النظر ، لكننا في الأخير نحافظ على وحدتنا ونحافظ على عمق علاقتنا الإنسانية والمحبة بيننا ، داخل الحركة تبرز قوتنا في أننا نعترف بالاختلاف وننضبط للخيارات التي تعبّر عنها الأغلبية ، والاختلاف لا يمسّ العلاقات بيننا ولا يمسّ بأي حال من الأحوال بوحدتنا". 

وأضاف " لم نصل بعد داخل حركة النهضة إلى وجود تيارات وحساسيات ، فنحن في طور التشكل ، لكن الأكيد أننا في مرحلة الانتقال من إدارة الخلافات بالتوافق إلى مرحلة قد تصل بنا إلى وجود مثل هذه التيارات والحساسيات، وبالطبع مع الحفاظ على وحدة الحركة، بل قد يزيد ذلك من تعزيزها".

لكن تصريحات الجلاصي عن وحدة الحركة وتماسكها الداخلي، لم تجد صداها بعد المؤتمر العاشر، حيث خرجت اتهامات للعلن بين قيادات الحركة بسبب الانقسام حول عدد من الملفات، من بينها إعلان الحركة التحول بشكل كامل نحو العمل السياسي، وطريقة انتخاب المكتب التنفيذي، والانفتاح أمام الراغبين في الانخراط فيها.

كما مثلت الصلاحيات الواسعة التي حصل عليها رئيس الحركة راشد الغنوشي، نقطة خلاف حادة من أطراف فاعلة داخل "النهضة"، حيث تتضمنت الإبقاء على آليتي تعيين رئيس الحركة لأعضاء المكتب التنفيذي ومن ثم عرضهم على مجلس الشورى للتزكية، إلى جانب النص على الأولوية التي يتمتع بها رئيس الحركة في الترشح للمناصب العليا في الدولة، وأنه في حال اعتذاره عن الترشح، يقوم بترشيح شخص آخر (لا يُشترط أن يكون من الحركة)، ويعرضه على مجلس الشورى لتزكيته.

وتتزامن الخلافات داخل "النهضة" مع المبادرة التي أطلقها الرئيس الباجي قايد السبسي بشأن تشكيل حكومة وحدة وطنية، والتي رحبت بها الحركة، وعقدت على إثرها اجتماعا مع حزب نداء تونس، مؤكدة أن هذه المبادرة تتسق مع دعواتها التي طالما أطلقتها لتشكيل حكومة وحدة وطنية يشارك فيها أهم الفاعلين السياسيين والاجتماعيين في الساحة الوطنية. كما دعت الحركة إلى إدارة حوار حول المبادرة لبلورة تفاصيلها بما يساهم في الحفاظ على الاستقرار السياسي والاجتماعي.

كما تتزامن تلك الخلافات مع توقعات بفقدان وشيك لكتلة الأكثرية التي تتمتع بها الحركة داخل مجلس نواب الشعب، لصالح حزب "نداء تونس" الذي عاد ليتماسك من جديد ونجح في رفع عدد أعضائه إلى 63 عضوا، بعد أن كان قد تقلص من 85 إلى 56 إثر سلسلة من الاستقالات المتتالية حولت حصة الأكثرية في البرلمان لصالح حزب النهضة الذي يستحوذ على 69 مقعدا، من أصل 217 مقعدا.

وعلى ضوء هذه التحولات في المشهد السياسي داخل البرلمان، فقد تدخل حركة النهضة معركة استباقية لاحتواء الخلافات الداخلية للحفاظ على تماسك كتلتها البرلمانية، ليس فقط للإبقاء على وزنها النيابي دون تفتيت، بل أيضا لمواجهة حالة تحول نوعي في شكل الخلاف الذي تحول من السرية إلى العلن، والذي قد تكون له تداعياته على مواقف الحزب السياسية، لاسيما نحو الدفع باتجاه مبادرة المصالحة الوطنية الشاملة التي أطلقها الغنوشي والتي تشمل التصالح مع رموز للنظام السابق، أو التشكيل المرتقب لحكومة الوحدة الوطنية، التي لا تزال موضع خلاف حاد بين الأحزاب التونسية.