أبوظبي- راشد الظاهري
شهد ولي عهد أبوظبي، نائب القائد الأعلى للقوات المسلحة، الشيخ محمد بن زايد آل نهيان المحاضرة الرابعة في مجلسه الرمضاني، بعنوان "أبوظبي بين الأمس واليوم.. انطباعات شخصية"، والتي ألقاهها المستشار الثقافي في وزارة شؤون الرئاسة، الدكتور زكي نسيبة.
وكشف المحاضر عن نقطتين تاريخيتين عاصرهما في بداية المسيرة التبستا على الكثير بالنسبة لتلك المرحلة التأسيسية؛ الأولى هي الاعتقاد الخاطئ بأن بريطانيا كانت وراء فكرة إقامة الاتحاد والواقع هو أن الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان كان المحرك الرئيس وراء ذلك المشروع التاريخي، برغم تحفظات الكثير من المسؤولين البريطانيين حول إمكانية نجاحه، لاسيما أن معظم مراكز القوى الداخلية والخارجية آنذاك كانت تعارض المشروع واقعًا وتضع العراقيل أمامه وتشكك في جدواه، بالرغم من القبول الظاهري به، موضحًا أن الشيخ زايد وحده من بين قادة المنطقة هو الذي لم يتردد يومًا في إيمانه العميق بضرورة نجاح الاتحاد.
وأكد أن المفهوم الخاطئ الثاني هو أن الاتفاق الثنائي واعلان دبي 1968 مهدا الطريق بيسر وعلى وجه السرعة لقيام دولة الاتحاد، والحقيقة أن هذا الاتفاق لم يكن سوى نقطة بداية لمسيرة طويلة وشاقة كانت تهدد كل لحظة بالانهيار، وتطلبت من الشيخ زايد جهودَا جبارة بما عرف عنه من صبر وحكمة يبذلها مع الآباء المؤسسين ومع دول الجوار قبل وبعد اقامة الاتحاد، وبرغم كل ذلك بقيت توقعات معظم المراقبين والدبلوماسيين لتلك الفترة التي استمرت حتى نهاية السبعينات بأن هذا المشروع لن يتحقق له النجاح.
وأوضح الدكتور زكي نسيبة أنه في العام 1961 أثناء جولة للشيخ شخبوط خارج البلاد يذكر السكان كيف أن الشيخ زايد بدأ على وجه السرعة بشق طريق من الكنكري والجار أراد به ربط المدينة بمنطقة المقطع ظن الجميع آنذاك أن هذا الحلم ضرب من الخيال وسرعان ما توقف المشروع الطموح وطمست معالمه في الرمال المحيطه به، حتى جاء يوم أصبح فيه هذا الخط الرفيع في الرمال الشارع الرئيسي في مدينة عصرية كما خطط لها الشيخ زايد.
وأضاف أنه في إمارات اليوم نرى دولة استطاعت أن تبنِ في فترة قياسية مجتمع الرفاهية والتقدم متألقة بين الشعوب والأمم وقد تبوأت في الكثير من المجالات مركزًا رياديًا على الساحتين الإقليمية والعالمية وقامت بدور مسؤول فاعل على الصعيدين العربي والدولي، وتعد اليوم من أهم مراكز الثقل المالي والاقتصادي والمعرفي في العالم.
وأشار المستشار الثقافي في وزارة شؤون الرئاسة أنه من الصعب أن نواجه هذه الصورة بما كانت عليه أبوظبي منتصف القرن الماضي، فبعد أن مرت بدورات متتالية من الصعود والانحسار استقر الحكم للشيخ شخبوط فعاد الاستقرار في أبوظبي وأرسل أخاه الشيخ زايد إلى المنطقة الشرقية ليبدأ مسيرة قيادية فريدة من نوعها في العالم، أثارت منذ تلك الأعوام الأولى الإعجاب والتقدير وبدأت أبوظبي في الانتعاش من جديد مع تصدير الشحنة الأولى من البترول العام 1962.
وأضاف نسيبة "أثناء زيارة عائلية إلى مدينة أبوظبي العام 1964 خلال إجازته المدرسية من بريطانيا نزلنا في مطار دبي وتوجهنا في سيارة جيب عبر طريق صحراوي غير معبد يمر بجبل علي ومن ثم بمناطق سبخة ورملية بمحاذاة البحر حتى الوصول إلى برج المقطع، وبعد ذلك عبرنا إلى الجزيرة على جسر من الحجارة والطين.. وعند الوصول إلى المدينة كان قصر الحصن المهيب المبنى الحجري الوحيد بشموخه بين بعض الأبنية الصغيرة من الطين والحجر ومنازل العريش بجانب البحر، وإنني أجزم لو سألت عرافًا يومها أتى في مستقبل الأيام لهذه القرية أن تكون عاصمة متطورة مزدهرة تضاهي أعظم العواصم تقدمًا في العالم لاتهمني بالهذيان".
وأضاف: عدت إلى أبوظبي العام 1967 وكان السفر يتم بعد الحصول على شهادة عدم ممانعة من الخارجية البريطانية والهبوط في مدرج جديد بجانب مبنى صغير لمطار البطين، وكان ينقص المدينة آنذاك معظم البني التحتية الضرورية وسكنت في معسكر شركة العائلة في المنطقة الصناعية آنذاك، وكانت الشركة قد أكملت بناء المشروع الأول لجلب المياه من الساد إلى أبوظبي، ومن خلال ترددي على فندق الشاطئ تعرفت على الكثير من رجال الإعلام الزائرين وبدأت العمل معهم مراسلاً بالقطعة.
وأشار إلى اهتمام الصحافة العالمية آنذاك بتولي الشيخ زايد الحكم ورؤيته بأن يرى الجميع ينعمون بالرفاهية في بلاده وعلى تعزيز الصداقة والتعاون بين دول الخليج وعلى تقوية مركز أبوظبي في العالم، وأن أول مقالاته العام 1968 كانت حول خطة أبوظبي الخمسية التي أعدت لتلبية الاحتياجات الملحة لشعب الإمارات ولمساعدة الدول الصديقة والشقيقة، وأن عمق الوجدان الإنساني في فكر وعقيدة الشيخ زايد كان دائمًا من أبرز المكونات الرئيسية في قيادته التاريخية وهي لاتزال نفسها السمات المحددة لقيادة الإمارات اليوم التي تتصدر العالم في العطاء.
وأضاف أن التاريخ يسجل أن رؤى الشيخ زايد الإنسانية كانت مجردة من كل حساب نفعي ومعنية بجلب البهجة والسرور والخير لكل من حوله، وكان المعتمد البريطاني كروفورد قد اعترف في تقرير بتاريخ 1969 أن الذين يتخوفون من الشيخ زايد لسخائه الجزيل ويعتقدون أن له من وراء ذلك مآرب لا يعرفون أن فطرته هي في العطاء دون توقع مردود.
وقال المستشار الثقافي في وزارة شؤون الرئاسة "إنني عاصرت ذلك كغيري شخصيًا في الآلاف من الحالات التي استطاع فيها الشيخ زايد أن يضيء شمعة أمل وبهجة في حياة كل محتاج أو منكوب؛ إذ نزل الشيخ زايد فأمر بدفع نفقات كل محتاج منهم ومع الرئيس كارتر الذي تعاون معه في أعمال خيرية في أفريقيا فذكر أنه لم يزر قرية نائية أو مدينة صغيرة هناك دون أن يترك فيها عملاً خيريًّا كمدرسة أو مستوصف أو ملجأ أيتام كان الشيخ زايد قد تبرع به حتى المنطقة الصحراوية النائية في رحميرخان".
وذكر أنه في العام 1969 تعرضت إمارة أبوظبي لأول هزة مالية بسبب وتيرة الإنفاق وانخفاض ريع البترول وكعادتها روجت الصحافة الأجنبية أن أبوظبي على وشك الإفلاس ونفى الشيخ زايد ذلك مؤكدًا أن تلك الأزمة لن تغير شيئًا في استراتيجيته في الإنفاق بسخاء لبناء دولة الاتحاد ولتعميم الرخاء على شعبه، ولقد تكررت الصورة ذاتها العام 1973 عندما استدان الشيخ زايد من البنوك الدولية لكي يرسل المستشفيات الميدانية والمولدات الكهربائية والمساعدات الإنسانية الى جبهات القتال في سورية ومصر.
وتحدث المحاضر عن أن الاهتمام الثاني للصحافة العالمية آنذاك كان حول الأوضاع الإقليمية السياسية والأمنية المتردية في المنطقة، مستذكرًا زيارة الوزير البريطاني العام 1968 ليبلغ حكام الإمارات أن حكومته ستتخلى عن حماية الخليج عندما كثر الحديث بين الإعلاميين حول الفراغ الأمني وانهيار الإمارات.
وأضاف: أذكر ثقة الشيخ زايد المطلقة في إمكانية قيام الاتحاد بما يلبي احتياجات المنطقة في الأمن والاستقرار ما جعله العام 1969 يبلغ وفدًا بريطانيًا كنت قد اصطحبته لمقابلته في مدينة العين بأنه لا حاجة لحكومة جديدة أن تؤجل الانسحاب العسكري؛ لأنه واثق من قيام اتحاد قادر على حماية نفسه بالتعاون مع الحلفاء والأصدقاء، ولقد كرر المقولة نفسها مع شاه إيران عندما عرض الأخير مساعدته العسكرية لنفس الغرض بعد قيام الاتحاد.
وذكر المحاضر أن الشيخ زايد توجه بعد الإعلان البريطاني مباشرة ليقابل الشيخ راشد ويبلغه بضرورة تشكيل الاتحاد، وقال الشيخ راشد "يا شيخ زايد كيف نبني دولة تكفل حماية الأمن والاستقرار؟ أين نجد الشرطة وجيش لهذا الاتحاد؟"، فأجابه الشيخ زايد: "لدينا المال ولدينا العزم ووحدة المصير وسنجد الرجال".