لندن ـ كاتيا حداد
يبرز الدرج الداخلي كقيمة مضافة في المشهد الزخرفي، من بين كل العناصر الهندسية والمعمارية، ذلك أن قيمه الجمالية تجاوزت كل حدود النِسب والمعايير والشروط لتصل إلى مستوى من المعالجات المميزة والفريدة، والتي جعلت منه محورًا تدور حوله كالأنشطة الزخرفية بصرف النظر عن طرزها وأساليبها وأزمنتها.
على أن التأمّل العميق في مكونات الدرج ومفرداته، يقدم تفسيرًا للمرحلة التي وصلت إليها هذه المعالجات، فتبدو كحتمية تنتمي في أبعادها الفنية إلى عالم الزخرفة والديكور أكثر منه إلى عالم العمارة،فالدرابزين والضوء والتوزيع والتكرار والهيكلة والركائز والفراغ المركزي، كلها مفردات تبدو مستدعاة من قاموس الزخرفة والديكور، غير أن ذلك لا يعني بكل تأكيد انفصال الدرج عن بعده المعماري وضوابطه، وكذلك الحلول المختلفة التي يقترحها والتي يتم اعتمادها تبعًا للاستخدامات وأساليب الحياة والنماذج والمثل والتبادلات البشرية... ولن ننسى بالطبع التقنية التي منحت الكثير من الفرص لتظهير الدور الفاعل للدرج، جماليًا وعمليًا.
لذا، فإن الكتابة عن الأدراج الداخلية لا بد من أن تكون في اتجاهين: الأول، تدوين تاريخ الأدراج في العمارة، وأنواعها وأبعادها ومقاساتها ومعاييرها عبر الأزمنة والعصور.
والثاني، رصد وتظهير القيم الجمالية للأدراج وأشكالها وموادها وأدوارها الجمالية والوظيفية.
ولأن الاتجاه الأول يبدو متاحًا عبر وسائط ووسائل عدة، وله من المراجع المنشورة ما لا يعد ولا يحصى، سنقصر موضوعنا هذا على الاتجاه الثاني، وهو أمر يتيح لنا معرفة أحوال الدرج، ليس فقط من خلال علاقته بنمط الحياة، وإنما من خلال علاقته بفضاءات المنزل والدور الجديد الذي تم إسناده اليه من خلال حضوره الطاغي في المساحة وتأثيراته العديدة في أبعادها وطبيعتها.
بالتأكيد، لا يزال الدرج يحتفظ بدوره الأساس، وهو وسيلة الانتقال من مستوى إلى مستوى آخر، ومن دور الى دور آخر، غير أن المتغيرات التي طرأت على الحياة المعاصرة، حتّمت الالتفات الى داخل البيت كمكان للراحة والتجدد، وبالتالي تحول هذا الاهتمام إلى حافز لكل المصمّمين والمعنيين بالديكور والزخرفة، مما دفعهم إلى التركيز على جماليات كل عناصر الداخل وتفاصيله من أجل توفير أقصى مستويات الراحة والرفاهية، فنال الدرج النصيب الأوفر من هذا الاهتمام، وأطلقت مخيلات المصمّمين والمهندسين العديد من الأشكال التي تناسب كل الأساليب والطرز الزخرفية، بتقديمات لا تلبي فقط رغبات الزبائن وميولهم، بل أيضًا تؤمّن لهم الحلول الجمالية والعملية التي تناسب منازلهم وشققهم.
فالأشكال والألوان والمواد كلها انضوت تحت لواء الابتكار لتمنح الدرج هوية أكثر حضورًا وفاعلية في المشهد الزخرفي، وقد برز هذا النشاط في إنجازات بديعة من الأدراج، تبدو أحيانًا غريبة وطريفة، وفي أحيان أخرى صادمة ومثيرة... ولكنها في كل أطوارها تشكل قيمة مضافة للداخل.
فهي من ناحية تضيف إلى الفضاء الداخلي أحجامًا وكتلًا بطواعية لافتة عبر تقنيات لم تكن معروفة في السابق، فأصبحت أقرب إلى العمل الفني، بل يمكن في كثير من الأحيان إلحاقها به من دون تردد، نظرًا للفرادة والتميز وجدّة الابتكار، ومن ناحية ثانية تؤدي وظيفتها الأساسية، ليس فقط بتأمين سهولة الانتقال بين مستويين، بل وأيضًا في إطار فكرة الاتصال التي أصبحت اليوم تشكل محورًا لكل جديد.
ومع أن الأدراج احتفظت بالكثير من معاييرها ومقاييسها، لكنها مع التجديد الذي تشهده لا تزال تحتفظ أيضًا بالكثير من خصائصها الأولية، مثل تكرار الدرجات ومقاييسها: عرضها وارتفاعها وعمقها... كذلك فإن الاهتمام الجدّي ينبغي أن يتجه نحو الأمن. فالدرج في كل مظاهره التقليدية والحديثة يستدعي شروط أمن تحتّمها طبيعة هذا العنصر الأساس في الهيكل المعماري والمشهد الزخرفي.
فعوامل الأمان للدرج ليست مسألة كماليات أو خيارات، بل هي ضرورات تمليها طبيعة الحياة العائلية في المنازل. وحين نقول الحياة العائلية فإننا نشير إلى العائلة التي تضم الأطفال وكبار السنّ ومتوسطي الأعمار، ومراعاة لكل هذه الشرائح العمرية تعتبر ضرورية وجوهرية عند اختيار التصاميم الخاصة بالدرج. كذلك فإن لذوي الاحتياجات الخاصة مطالب محددة لا يمكن تجاهلها، بل ينبغي الالتفات إليها من خلال مساعدة فعالة ومضمونة.
وانطلاقًا من مفهوم التناغم بين الوظيفي والجمالي، يبدو الدرج في حلّته المعاصرة أكثر حرصًا على الحفاظ على هذه القاعدة، بل نجد العناية بهذا الأمر وقد بلغت ذروتها في تلك الأشكال الفذّة التي يصعب المرور أمامها من دون توقف والتفات.