لندن - كاتيا حداد
اختيرت اسكتلندا هذا الأسبوع، للحصول على لقب أجمل بلاد العالم بدليل السفر "راف جايدز"، ولم يكن هذا مفاجئًا للكاتب كريستوفر نيكولسون، الذي طالما سحرته جبال كيرنجورمس منذ طفولته، فيحكي عن اسكتلندا قائلا: عندما كنت في السابعة أو الثامنة من العمر، بدأت في الذهاب مع عائلتي إلى اسكتلندا لقضاء العطلات الصيفية، كنا نقف بسيارة الرحلات الخاصة بنا في أحد الأماكن - عادة ما يكون في مكان محاط بالهاموش – وننطلق نحو التلال. أقول إن تلك الرحلات كانت مبهجة أبخسها حقها؛ فإن القوة الكامنة بالمناظر الطبيعية أثرت فيّ بعمق، وكنت أخاف بسرعة، ما زلت أتذكر الرعب الذي طغى علي ونحن نسرع خلال الضباب الداكن على الجانب المغطى بالحصى من أحد الجبال، غير قادرين على رؤية المنحدر أمامنا.
وفي يوم صيفي آخر، زرنا وادي فيشي، الذي يجاورالحافة الغربية لجبال كيرنجورمس، يكمن جزءًا من السحر الاسكتلندي في أسماء الأماكن بها - كيليكرانكي، رانوش، كريانلاريش، أردنامورتشان - وأعجبني الصوت الموسيقي بكلمة "فيشي" – ويمر بالوادي نهر فيشي الممتلئ بالأسماك الفضية الملساء.
مسار واحد طويل يؤدي من بحيرة لوش إنش وجسر فيشي إلى الوادي، ومن بين الوديان الاسكتلندية، وادي فيشي لا مثيل له لكونه واسع وممتلئ بالأشجار، والخيار الأفضل هو المشي خلال الوادي واستكشاف أشجار الصنوبر القديمة بمحاذاة النهر. ذهبت الملكة فيكتوريا إلى هناك في خريف عام 1861 وكتبت في مذكراتها: "غابات تنوب رائعة".
وفي السنوات الأخيرة، عُزلت الغزلان على نطاق واسع من أجل تحسين فرص نمو الأشجار الصغيرة، وهناك الآن العديد من الشتلات، ليس فقط من الصنوبر الاسكتلندي ولكن أيضا البتولا والصفصاف وألدر، وقد استفادت الحياة البرية، تصطاد زواحف الأشجار الحشرات على جذوع الصنوبر، في حين أن أسراب من القرقف - من بينها نوع يتواجد خصوصا في المرتفعات- تطير خلال فروع الأشجار العالية.
لم يكن كل التغيير، على الأقل في رأيي، في اتجاه الأفضل، فأعمال التطوير التي نُفذت على الطريق الطويل خلال الوادي مبالغ فيها، مما يجعل المشي به - التعامل المختلف مع الأرض غير المستوية، والشعور بالعلاقة الحميمة مع الأرض - أقل إثارة للاهتمام، في بعض الأحیان يبدو كأن البرية لم تعد موجودة.
لهذا السبب، بعد السير لمسافة قصيرة أترك الوادي واتجه على الطريق الذي يصعد نحو الهضبة الجبلية، وبعد مرور أكثر من ساعة، اقترب من حفرة خضراء تسمى سيست مهيراد، أو نعش مارجريت، حيث غالبا ما يستمر الثلج إلى وقت متأخر قد يصل لمنتصف الصيف.
تُروى قصة قديمة عن عذراء وادي فيشي التي حكم على حبيبها بالإعدام لجرائم غير معروفة، وعندما رفض الحاكم العفو عنه، صعدت حيث توجد الحفرة وقتلت نفسها؛ والثلج هو غطاء نعشها، ومن المثير للدهشة أنه على بعد سبعة أميال على الجانب الآخر من جبال كيرنجورمس، يوجد سيست مهيراد ثاني، حيث تقع الثلوج حتى وقت أبعد في فصل الصيف.
وتظهر الهضبة فجأة، وينفتح عالم مختلف، تمتد مساحة واسعة من الأرض البنية خالقة منظر ممتع، مسيرة قصيرة على العشب الصلب والأرض النابضة بالحياة تأخذك إلى المنحدرات المطلة على المياه المظلمة في بحيرة إينيتش، في حين أن مسيرة أطول بكثير ستأخذك لقمة جبال بريرياك، على ارتفاع 1296مترا، وهو ثالث أعلى جبل في بريطانيا.
الذهاب هناك في يوم صيفي لطيف تجربة مبهرة، ولكن ليس اليوم، إذ وصلت إلى الهضبة لأجد عاصفة شرسة سرعتها 50 ميل/ الساعة، ويهب الهواء مباشرة في وجهي، قوي جدا ومضطرب حتى إنه من الصعب الوقوف مستقيما، قاومت لفترة محاولا البقاء، ثم استسلمت.
ولكنني لا أمانع؛ في الواقع أنا أحب الإحساس بعدم اليقين المصاحب للمشي هنا، هذا هو النقيض للسياحة العادية – حيث تعرف عموما إلى حد كبير ما ينتظرك - بأعلى الجبال الاسكتلندية الطقس متغير جدا والتضاريس صعبة للغاية بحيث تكون دائما أمامم تحدى، وهذا يحفز العقل، للتفكير في الأمور الصعبة في الحياة، وهذا هو المكان المناسب لك.
واتجهت للعودة إلى وادي فيشي، حيث الكثير البقع السحرية الهادئة للاحتماء بها من أي عاصفة، اتبعت النار المشتعلة حتى وصلت إلى شجرة صنوبر عتيقة،جلست على ضفة النهر، استعيد الأفكار القديمة، وأشاهد أنماط المياه وأشعة الشمس، خلعت الأحذية والجوارب، ووضعت قدمي في الماء البارد، نظرت لأرى عدد قليل من زهور الحوذان، على جانب فرع سقط من أحد الأشجار، متألقة مثل النجوم الصفراء الزاهية، ثم سقط مخروط صنوبر في الماء، وأخذ يتحرك في دوائر من الفقاعات مندفعا إلى أسفل.
ويختم كريستوفر حكايته: "تتجلى الحركة التي لا نهاية لها للماء في سكون أشجار الصنوبر الكبيرة التي ترتفع فوقي، أحسستها تقول لي كنا هنا عندما كنت صبي، تذكر؟ لم نذهب إلى أي مكان، لا أعرف إن كنت أتيت إلى هذه البقعة بالضبط فيما مضى، ولكن بالتأكيد لطالما كانت الأشجار والنيران والصخور هنا".