وادي قاديشا في لبنان

وادي قاديشا من أجمل وأروع ما قد يراه إنسان. إنه نموذج من الجمال والغموض حيث يعيش الإنسان في ألفة مع الطبيعة الخلابة، وفي حال من التنسك والصلاة والتقرب من الخالق. وادي قاديشا أو وادي قنوبين، هو من أعمق وديان لبنان. يقع في قضاء بشري شمال لبنان ويبعد عن العاصمة بيروت 121 كلم ويرتفع عن سطح البحر 1500 م. سمي قاديشا نسبة إلى نهر قاديشا الذي ينبع من مغارة في أسفل جبل الأرز "أرز الرب" التي تتوجها "القرنة السوداء"، أعلى قمم جبال لبنان.

وكلمة قاديشا مشتقة من جذر معناه القداسة، والتي أصبحت صفة له فأصبح اسمه "الوادي المقدس"، ويرجح أن يعود تقديس الوادي سابقا للمسيحية، التي كرست قداسته ببناء الأديرة والكنائس والصوامع، التي باتت مساكن لأسر بشرية. ويرجح أنه منسوب للاله "البعل القدوس" الذي كان له معبد مقصود في طرابلس في العهد الروماني، ويعرف "بزوس القدوس".

ومنذ الأزمنة القديمة حتى العصر الروماني، سكن الإنسان مغاور الوادي وملاجئه الصخرية. وكان هؤلاء ينتمون إلى مختلف المعتقدات التي انبثقت عن الاختلافات اللاهوتية حول لاهوت المسيح وإنسانيته والتي أدمت القرون المسيحية الأولى. وكان يقيم في الوادي بعض المنقطعين من المسلمين، وفق الرحالة الأندلسي ابن جبير الذي تجول في المنطقة في غضون القرن الثاني عشر، وشهد بأن مسيحيي جبل لبنان كانوا يقدمون الطعام والمؤن إلى المسلمين الذين اختاروا الانقطاع عن الدنيا. لكن وادي قنوبين شكل معتصما مركزيا للموارنة بخاصة أيام الاضطهاد العثماني باسم الدين، فنقلوا الكرسي الأنطاكي من شمالي سورية إليه وذلك في أيام الحرب والمحن.

لم يكن الموارنة في الوادي بحاجة إلى من يدعوهم إلى الصلاة، فكل ما فيه يدعو إلى التأمل والزهد في النفس والصلاة. وتجاوب الموارنة مع هذه الدعوة، فراحوا، كالمسيحيين الأولين، يتابعون تعليم الرسل والحياة المشتركة والصلاة. وشعر الكثيرون منهم بالحاجة إلى مزيد من التأمل والصلاة، فكثر العابدون والعابدات، وامتلأت الوادي بمغاور النساك. وعاش الموارنة هاجس الجوع فزرعوا الأرض، وهاجس الخوف إذا توجهوا إلى العمل وهجم عليهم العدو على حين غفلة.

ويمتد وادي قاديشا من بلدة بشري، حيث تتفرع منه وديان رافدة تجتمع مياهها فيه لتسيل باتجاه البحر، بعد أن يكون نهر قاديشا قد عبر طرابلس وتقمص نهر أبي علي. عند بلدة طورزا ينفصل الوادي إلى شعبتين. تتجه احداهما إلى بلدة إهدن وتعرف باسم "وادي قزحيا". أما الثانية فتتجه نحو الأرز وتعرف باسم "وادي قنوبين"، نسبة إلى اسمي ديرين عظيمين فيهما. ويحفل الوادي بمعالم تاريخية مهمة، منها:

- مقر البطريركية المارونية من العام 1400 م حتى العام 1790 م، في دير سيدة قنوبين، الذي ظل كرسيا بطريركيا من سنة 1440 الى سنة 1823، وقام فيه أربعة وعشرون بطريركا.
- دير مار أليشا الشاهد على ولادة الرهبنة المارونية اللبنانية في عام 1695، دير مار أنطونيوس قزحيا وهو مقر أول صحافة مكتوبة في لبنان في القرن 16، كنيسة القديسة مارينا حيث مسجى فيها جثمان البطريرك المكرم اسطفان الدويهي، وهو اليوم محج لكل المؤمنين. وقد كرس للقديس أنطونيوس الكبير وهو معروف للعامة باسم قزحيا، نسبة للوادي الذي يقع فيه. وادي قزحيا، ووادي قنوبين الذي يتصل معه من الغرب ليشكلا معا وادي قاديشا.

ويعتبر دير قزحيا أحد أقدم الأديرة في وادي قاديشا. ففي هذا الدير في العام 1584 تم تأسيس أول مقر لصحافة ورقية ومطبعة في الشرق، عرفت باسمه مطبعة دير قزحيا. وفي العام 1708، تم إعطاء الدير إلى الرهبان المارونيين اللبنانيين. وما يزال بعهدة هذه الرهبنة. وقد بلغ دير قزحيا أوج عظمته في الجزء الأول من القرن التاسع عشر، حيث انتمى إليه أكثر من من 300 راهب.

ورشة تأهيل

بعد عشر سنوات مرت، منذ تصنيف الوادي على لائحة التراث العالمي، منعت خلالها كل أشكال التنمية، منعا لعمران قد يشوه المنطقة ويؤدي إلى إخراجها من اللائحة. لكن، بعد سلسلة متابعة ل "مجموعة الوادي" ولاتحاد بلديات بشري، بدأت الترجمة الطبيعية للتصنيف، التي توفق قدر الإمكان بين خصائص الطبيعة والشجر، ومقتضيات عيش البشر أهل الوادي والحفاظ على أبسط حقوقهم.

فبدأت في وادي قنوبين الخطوات الأولى للتنمية ومحاولات النهوض بالمنطقة، إذ أجريت في صيف العام 2008 تحسينات على منازله القديمة، كما على الطرق التي تصله بالبلدات والقرى المؤدية إلى الوادي وعلى طرق المشاة البدائية. وتم ذلك ضمن بروتوكول تعاون وقع بين "مجموعة الحفاظ على تراث وادي قاديشا"، برئاسة المطران سمير مظلوم، والوكالة الإسبانية للتمويل التي قدمت هبة قدرها مئة وثمانون ألف يورو، خصصت لإنجاز سلسلة مشاريع تهدف إلى إبراز معالم الوادي والإفساح في المجال أمام استيعابه عددا أكبر من السياح والزوار.
ويترجم البروتوكول المذكور بسلسلة مشاريع، أبرزها تأهيل طرق المشاة إلى عمق الوادي، لافتا إلى أن هذه الطرق تربط الوادي المقدس ببلدات تقع على أطرافه في قضاءي بشري وزغرتا، ما ينعش حركة السياحة باتجاه الوادي الذي يشكل حاليا محجا للمؤمنين والسياح من المناطق اللبنانية كافة ومن بلدان الانتشار.

ويهدف البروتوكول أيضا الى إقامة نزلين تراثيين لاستقبال الزوار، تتولى إدارتهما الهيئات الإكليريكية في الوادي، حفاظا على الخصائص الروحية، ومنعا لانحرافها عن الغاية المقصودة من إقامتهما. بالإضافة إلى ذلك، سيتم إعداد وتأهيل بيوت للضيافة، وإقامة مراكز استقبال وتوجيه، ومواقف للسيارات عند أطراف الوادي، على أن ينقل الزوار بوسائل بدائية، حفاظا على خصوصية الوادي. ويضع اتحاد بلديات قضاء بشري، الوادي على رأس سلم أولوياته، في متابعة العمل بالبروتوكول المذكور، بالإضافة إلى السهر على نظافته وتأمين الحراسة ولم النفايات باستمرار.

الحج إلى قنوبين

بدأت السياحة شبه المنظمة تدب في أوصال وادي قنوبين، الذي يستقبل سنويا آلاف السياح، ويفتح مغاوره لأيام نسكية يعيشها كل من يرغب في اختبار حياة التقشف. غير أن هذا الوادي ما زال بحاجة إلى أساسيات كثيرة، خصوصا في مجال حل مشكلة الصرف الصحي الذي يصب في الوادي من البلدات الواقعة في نطاقه، إلى جانب استكمال الإنارة فيه ليتمكن من استقطاب السياح ليلا نهارا، وتأهيل الطرق الترابية الداخلية تأهيلا تراثيا يتناغم وروحية الوادي وطبيعته، حيث تتركز غالبية الزيارات على الاختبارات الروحية والاطلاع على حقبة كبيرة من تاريخ الطائفة المارونية التي عاش بطاركتها وقديسوها ردحا طويلا من الزمن في مناسك الوادي ومغاوره اتقاء للاضطهاد والعنف الديني المتطرف.

كالعادة لم تولِ كنوز لبنان الطبيعية العناية الكافية، فبقيت في معظمها، وأبرزها وادي قاديشا، تعيش على جرعة بروتوكول دولي ينهض بها من عهود الحرمان اللبنانية. فهل تحيي الجرعة من أصبح بحاجة لإنعاش عميق يعيده إلى الحياة؟.