باريس- صوت الامارات
اقيمت اليوم الجمعة، في صرح الأنفاليد في قلب باريس مراسم تكريم وطني لشارل أزنافور "ابن المهاجرين الأرمنيين" الذي ذاع صيته عبر العالم كأحد أشهر المغنين الفرنسيين، وحضر المراسم عدد من أكبر الشخصيات السياسية وبعض المشاهير.
عندما لم يكن عمرنا يتجاوز العشرين عاما بعد ونشدو رغم ذلك بألحان "لا بوهام" للمغني الشهير شارل أزنافور، كنا نتصوره قد مات منذ عقود ... ففي حضورنا اليوم التكريم الوطني الذي خصص له في فرنسا بعد وفاته الاثنين عن عمر 94 عاما، إدراك لمعنى الخلود الذي لا يرتبط بحياة الجسد. ألم يقل الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في الكلمة التأبينية التي ألقاها بصرح الأنفاليد إنه "في فرنسا، لا يموت الشعراء أبدا"؟
حضور الرئيس الفرنسي
أقيمت مراسم التكريم الوطني للمغني الراحل في الساحة الشرفية لصرح الأنفاليد بالعاصمة باريس، بحضور إيمانويل ماكرون الذي ترافقه زوجته بريجيت وبحضور عائلة المغني وبعض الضيوف والشخصيات، وكانت الشمس في الموعد لتودع بدورها شارل أزنافور على وقع أغنيته التي تؤكد أن "الفقر أهون في الشمس". فكان رحيله يشبهه، دافئا وبسيطا.
ويُعد آخر عمالقة الأغنية الفرنسية، كان اسمه الحقيقي شاهنور أزنافوريان، وُلد في فرنسا لأبوين من أرمينيا وحصل على الجنسية الأرمينية عام 2008.
وشارك في المراسم ممثلون عن الكنيسة ورئيس جمهورية أرمينيا أرمن ساركيسيان ورئيس وزرائها نيكول باشينيان الذي ألقى أيضا خطابا تأبينيا.
تضامن أزنافور مع بلاده
وكان أزنافور، برهن في العديد من المناسبات تضامنه مع بلاده الأصلية لا سيما حين ضربها الزلزال عام 1988، فأطلق حملة قوية جنّد فيها العديد من الشخصيات الفرنسية عبر مؤسسته "أزنافور من أجل أرمينيا".
وقال نيكول باشينيان رئيس وزراء أرمينيا "شارل أزنافور هو الرجل الذي رفع علم أرمينيا على قمة العالم"، وأثار رحيل أزنافور موجة حزن في أرمينيا. وسيدفن المغني الراحل لاحقا في مدفن عائلي بمقبرة "لي إيفلين" الغير بعيدة عن باريس، ومن المقرر أن تعلن أرمينيا يومها الحداد.
وأشاد نيكول باشينيان بـ"المعلم العزيز الذي يعتبره كل أرمني من أفراد عائلته"، وشدد على أن أزنافور "أعطى دفعا جديدا للعزة الأرمنية"، فطبع انتماء أزنافور المزدوج المراسم برمتها، كما انحنى باشينيان في لحظة مؤثرة أمام نعش أزنافور.
التكريم الوطني
والتكريم الوطني مخصص في فرنسا لشخصيات استثنائية من عسكريين وأدباء ومفكرين وفنانين ساهموا في تلميع صورة بلادهم في الخارج، ويدعى لحضورها رؤساء وممثلو جميع مؤسسات الدولة على غرار الجمعية العامة والبرلمان ومجلس الدولة والمجلس الدستوري. ولأزنافور مسيرة مهنية حافلة دامت 70 عاما وتضمنت تسجيل 1200 أغنية على الأقل وبيع 1500 ألبوم عبر العالم، وهو من أكثر المغنين الفرنسيين شهرة في الخارج.
وعارضت عائلة المغني في بادئ الأمر فكرة إقامة مراسم تكريم وطني لكنها تراجعت عن رفضها أمام إصرار الإليزيه والحكومة،فالعديد من الشخصيات دعت أيضا إلى إقامة مراسم هذا التكريم الوطني على غرار وزيرة الثقافة الفرنسية الحالية فرانسواز نيسان التي رأت وجوب تنظيم "تكريم كبير" والرئيس السابق فرانسوا هولاند.
وشاركت نيسان في المراسم، وفرانسوا هولاند وكذلك الرئيس السابق نيكولا ساركوزي الذي جاء برفقة زوجته المغنية وعارضة الأزياء كارلا بروني.
وحرصت عائلة الراحل وفقًا لأحد مقربيها على "أن لا تتحول إلى عرض للمشاهير"، ونصبت شاشة عملاقة خارج صرح الأنفاليد ليتمكن الجمهور من متابعة المراسم، وصرح الأنفاليد الواقع بالدائرة السابعة مدفون به نابليون بونابرت وهو اليوم متحف عسكري وتظهر جدرناه أيضا لائحات تكريم للأجانب الذين قاتلوا وقُتلوا في سبيل فرنسا. وقد تابع أيضا مواطنو أرمينيا المراسم على شاشة عملاقة نصبت في الساحة الرئيسية في يريفان.
حياة أزنافور الاجتماعية
وكان أزنافور تزوج ثلاث مرات، من ميشلين روجيل فرومونتان وإفلين بليسيس ثم زوجته الأخيرة السويدية أولا تورسل، ورزق ستة أطفال توفي منهم واحد يدعى باتريك. وطلبت العائلة أن تعود مداخيل حقوق صور مراسم التكريم الوطني لـ"مؤسسة أزنافور من أجل أرمينيا" حسب أحد مقربيها.
تكريم رسمي لأزنافور
وكان التكريم الوطني لأزنافور "رسميا" باسم الدولة الفرنسية ومختلفا عن التكريم الشعبي مثلا الذي حظي به جوني هاليداي ونزل فيه مئات الآلاف إلى شوارع باريس، وتحدث فيه ماكرون باسم "الشعب الفرنسي".
وبعد تحفظاتها قبلت عائلة أزنافور بهذا التكريم الوطني بمبدأ أن المغني، وكاتب الأغاني، لم يرفض يوما تكريما، فقد أحرز العديد من الجوائز والصفات الشرفية في فرنسا (لا سيما وسام جوقة الشرف برتبة قائد) وفي بلجيكا وكندا.
وأكد المغني أنريكو ماسياس لفرانس24 أن عائلة أزنافور ترددت في قبول التكريم الوطني في البداية "لأنها عائلة بسيطة ومتواضعة" لكن "شارل أكبر من شخصه" وهو ملك للجميع نوعا ما.
تكريمات في حُكم ماكرون
وكان من بين الشخصيات التي حظيت بتكريم وطني في فترة حكم ماكرون نذكر الوزيرة السابقة والمناضلة النسوية سيمون فاي والكاتب جان دورميسون ومؤخرا المخرج كلود لانزمان.
وجاء ماكرون بعيد زوجته بريجيت، فحيا العلم والجيش الجمهوري على وقع عزف النشيد الوطني الفرنسي، وأبرز ماكرون في خطابه التأبيني مكانة المغني الراحل كأيقونة وطنية، وحيا فيه سفيرا للغة والثقافة الفرنسية مؤكدا أنه "في فرنسا لا يموت الشعراء أبدا"، ووضع نعش أزنافور في وسط الباحة الشرفية ملفوفا بالعلم الفرنسي بألوانه الأزرق والأبيض والأحمر ووُضع أكليلٌ يحمل ألوان علم أرمينيا بجوار النعش.
كلمة ماكرون بشأن أزنافور
وقال ماكرون "أنا والأرمينيون في جميع البلدان نفكر بك اليوم... كان من المفترض أن يكون بيننا في يريفان" لحضور القمة الفرنكوفونية "في الأسبوع المقبل وسيترك رحيله فراغا كبيرا".
وقدَّم ماكرون تعازيه لأرملة أزنافور وأقاربه وتبادل بعض الكلمات معهم، حيث كانت أرملة أزنافور أولا تورسل حاضرة وكذلك أخته آيدة وبناته سادا وكاتيا وأبنائه شارل وميشنا ونيكولا.
وركَّز إيمانويل ماكرون في خطابه على مهارة أزنافور وحبه للثقافة ودأبه على نشرها فقال إنه كان يحيي اللغة الفرنسية وساعد العديد من الموسيقيين الشباب لأنه فهم أن الثقافة الفرنسية ثقافة "استقبال" للغير، وأشار ماكرون عبر تجربة أزنافور، مستشهدا بغيوم أبولينار وأوجين يونسكو وغيرهم من الأدباء، إلى أن اللغة الفرنسية "وطن داخل الوطن".
وتحدث ماكرون عن وفاء أزنافور لأهله وأصدقائه الفرنسيين والأجانب وعن فخره بأرمينيا، وتطرق إلى "التشتت" الأرمني، فأثبت أن الراحل هزم مرارة الهجرة بشاعريته وعشقه للكلمات وحرصه على دقة الأداء، فصار بفضل اللغة الفرنسية "وجها من وجوه فرنسا" وأنه "منح صوتا لمن يراد إسكاتهم".
وعاد الرئيس الفرنسي على بدايات أزنافور ووصوله إلى الشهرة أيضا بفضل كتابة الأغاني في بداياته لا سيما لكبار الفنانين على غرار جيلبار بيكو وإيديت بياف وشارل ترينيه، مذكرا أن قوة الكلمات في بلاده أكبر من كل شيء، ومصرحا "نحن نهائيا بلاد سيرانو دي برجراك".
وتابع ماكرون "كان أزنافور يود أن يعيش قرنا" لكن المنية وافته، ومع ذلك رافقتنا أغانيه لعقود فكانت للملايين دواء وأثرت فينا بعواطفها الحساسة وحماستها" ورومنطيقيتها.
ووجَّه ماكرون بخطابه رسالة قوية يُذكر فيها بفضل المبدعين من أصول أجنبية على فرنسا. وقال المغني أنريكو ماسياس وهو من أصل جزائري لفرانس24 أن أزنافور "قدوة". فهو ابن مهاجرين ويكرم بعد موته في الأنفاليد وهذا يعني أن "الكل يمكن أن يصل إلى هنا" وينجح ففي فرنسا "لا اختلاف بين الطبقات"، وأكدت عمدة باريس آن هيدالغو التي شاركت أيضا في المراسم أنها ستمنح اسم أزنافور لأحد الأماكن في العاصمة.
مراسم التكريم
وإلى جانب الشخصيات السياسية من مختلف الأطياف، على غرار زعيمة حزب "التجمع الوطني" اليميني المتطرف مارين لوبان التي كانت متواجدة، شارك في المراسم مشاهير من وسط الإعلام على غرار ميراي دوما وميشال دروكار وممثلين كبار على غرار روبار حسين، ومغنون على غرار "غران كور ملاد" وداني بريان، ورياضيون على غرار لاعب الكرة السابق يوري دجوركاييف.
وكانت المراسم أيضًا تكريمًا عبر الموسيقى لموسيقار كبير، فبث تسجيل صوتي لأزنافور، كما غادر نعشه ساحة الأنفاليد على وقع أغنيته "احملوني" : "احملوني إلى بلاد العجائب، احملوني إلى أقاصي الأرض...يبدو لي أن الفقر أهون تحت الشمس"، وتبع خروج النعش وابل من التصفيق.
وكان أزنافور ابن المهاجرين الأرمنيين يقول دائما "انظر من أين جئت وإلى أين وصلت" فهاهو اليوم في باحة صرح الأنفاليد في باريس يكرم تكريم العظماء.