بورصة وول ستريت

بثت بورصة وول ستريت مع بدء التعاملات أمس، الثلاثاء، بعضا من الاطمئنان في نفوس المستثمرين بعد أربعة أيام من الذعر الذي اجتاح الأسواق مع خسائر واسعة تخطت 4 تريليونات دولار. وبعد خسائرها القياسية، عدلت وول ستريت خسائر الافتتاح أمس، لتتحول الشاشات إلى اللون الأخضر في مؤشرات "ستاندرد آند بورز 500" و"ناسداك" و"داو جونز"، حيث تنفس المتعاملون الصعداء؛ بخاصة مع المخاوف التي سادت قبل التعاملات مع إغلاق البورصات الرئيسية في آسيا وأوروبا على خسائر كبرى... مما تسبب في إرباك المتعاملين واتجاههم بشكل كبير إلى البحث عن الملاجئ والملاذات التقليدية مثل الذهب أو أحد المحفزات الأولية كالسندات الحكومية.

ومع حلول الساعة الـ3 عصرا بتوقيت غرينتش، كان مؤشر "داو جونز" يسجل مكاسب بنحو 0.13 في المائة، وارتفع "إس آند بي 500" بنسبة 1.18 في المائة، و"ناسداك" بنسبة 0.40 في المائة. وفي الأسواق العالمية، أغلق مؤشر نيكي الياباني على خسارة غير مسبوقة منذ انتخاب دونالد ترامب بنسبة بلغت 4.73 في المائة، وهانغ سينغ في بورصة هونغ كونغ على خسارة 5.02 في المائة. وبعض مقاومة لعدة أيام، أنهت الأسهم الهندية تعاملات أمس بتراجع كبير، وأغلق مؤشر سينسكس 30 الرئيسي بخسارة بلغت 1.6 في المائة، فيما كانت التعاملات الأوروبية تسير في الجانب السلبي حتى عصر أمس، حيث سجلت بورصة لندن تراجعا بنحو 1.27 في المائة، وبورصة فرانكفورت بنحو 1.35 في المائة، وباريس 1.31 في المائة.

وقبل افتتاح جلسة التداول بالبورصة الأميركية أمس توقع مستثمرو وول ستريت خسائر جديدة، وترك انخفاض داو جونز القياسي خلال الأيام الثلاثة الماضية كثيرا من التجار في حالة صدمة حقيقية، ومن المتوقع أن يستمر التقلب خلال الأسبوع الحالي إلى مستويات لم تشهدها الأسواق منذ أغسطس (آب) 2015.

وقال أندريه باخوس، العضو المنتدب لشركة نيو فينس كابيتال، لـ"رويترز" أمس، إن "الخوف يطارد الأسواق، والشيء الوحيد الذي يمكن قوله بثقة هو أن التقلب قد عاد فجأة إلى الأسواق"، مؤكدا أن "الشعور بالخوف يولد سلوكا غير عقلاني".

وفسر باخوس أن تقلبات السوق ومخاوفها نتجت عن ارتفاع الأجور، وهذا يعني بالأساس خبرا جيدا وليس سيئا؛ لكن التقلبات تسببت في أن يكون التجار متسرعي القرار لتجنب الخسارة، في حين تعود المستثمر الحقيقي في المقابل على هذه الظروف. وبينما شكل الإعلان عن زيادة كبيرة في الأجور نبأ سارا للاقتصاد الأميركي، فإنه انعكس بشكل مدمر على الأسواق، إذ أحيا المخاوف من حصول تضخم، ما سيؤدي إلى تشديد السياسة النقدية الأميركية بوتيرة أسرع مما هو متوقع. وفي أعقاب ذلك، ارتفعت معدلات عائدات سندات الخزينة، ما أدى إلى تعثر وول ستريت. وتزايدت الاثنين الخسائر، وانخفض مؤشر داو جونز بنحو 1600 نقطة خلال الجلسة، قبل أن يغلق على تراجع بنسبة 4.60 في المائة.

في الوقت ذاته تتكيف الأسواق المالية مع عالم جديد، حيث لا يقوم المصرفيون المركزيون بدعم الأصول من خلال سياسة نقدية فضفاضة، وترتفع أسعار الفائدة في الوقت الذي يحتاج فيه الاقتصاد إلى المال من أجل زيادة نشاط الاستثمار المؤسسي الجاري، وهو الأمر الذي يعني أنه لن يكون هناك تدفق مستمر للأموال في سوق الأسهم التي تدعم الأسعار على مدى العامين الماضيين.

ويرى جيرمي فوستر، محلل أسواق المال في مجموعة "صن" الأميركية، في تعليقه لـ"الشرق الأوسط"، أن "التحدي الحقيقي للمستثمرين بعد فترة من التقلب الشديد جدا، هو تضاؤل حماسهم"، مؤكدا أن ذلك "أمر طبيعي"... بينما المزيد من التقلبات تعني المزيد من الفرص للمستثمرين النشطين ذوي الأعصاب القوية، مشددا على أن عمليات البيع التي بدأت أواخر الأسبوع الماضي أعطت ضوءا أخضر للفرص الاستثمارية الحقيقية.

ويرى خبراء آخرون أن تقلبات الأسواق "دورة تصحيح" وليست "انهيارا كاملا"، وأكدوا أن المصرفي ورئيس الفيدرالي الأميركي جيروم باول "لن يبقى على الهامش لفترة طويلة"، إذا استمرت عمليات البيع.

ويقول أندرو كونتي، مدير الاستثمار في "ريدمان للإدارة الأصول" لـ"الشرق الأوسط" إن "عمليات البيع العالمية ستتراجع قريبا"، مجادلا بأن المستثمرين تفاعلوا بشكل مفرط مع قفزة الأسبوع الماضي في الأجور الأميركية مهابة ارتفاع التضخم وأسعار الفائدة، وأضاف: "هذا لا يعني أن التقلب لا يمكن أن يستمر... لكننا نمر بمرحلة من تقلبات منخفضة للغاية متزامنة مع جني للأرباح، وبعض الأنباء العكسية، وهو أمر طبيعي بعد فترة طويلة من عوائد استثنائية".

وأكد كونتي أنه "بالنظر إلى الأساسيات الإيجابية في جميع أنحاء العالم حاليا، فإن أي تراجع في السوق سيكون قصيرا نسبيا حتى نرى تغيرا جوهريا في أسعار الفائدة العالمية؛ وبالتالي تغير العائد على النقد والأصول الأقل خطورة، بصرف النظر عن توقعات أقل إيجابية للشركات على الصعيد العالمي".

وحذر الاقتصاديون والمحللون لعدة أسابيع من أن مستويات التضخم في الاقتصادات الكبرى يمكن أن تزيد هذا العام إلى المستويات المستهدفة عند 2 في المائة، وربما تتخطى ذلك إلى 3 في المائة في بعض البلدان الكبرى، وتعتقد البنوك المركزية أن هذه الزيادة جيدة للبلدان المتقدمة اقتصاديا، وتحولت الأرقام الرسمية الأميركية التي تشير إلى قوة الاقتصاد يوم الجمعة الماضي إلى "مخاوف حقيقية" ظهرت في عمليات بيع مكثفة بعد أن ظهر ارتفاع متوسط الأجور في الولايات المتحدة بنحو 2.9 في المائة، وزادت البيانات من احتمالية ارتفاع أسعار السلع في المتاجر قريبا، مما يزيد الضغوط على صناع السياسات لضرورة خفض أسعار الفائدة لتهدئة الاقتصاد، إلا أن الأنباء المتواترة حاليا تشير إلى توجهات عكسية بزيادة معدلات رفع الفائدة... وهو أمر يضر بأسواق الأسهم على مستوى العالم، رغم أنه قد يصب في مصلحة الاقتصاد العام.

واعتبر المستثمرون بداية العام الحالي نهاية حقبة "الأموال الرخيصة"، التي كانت تشجع المستهلكين والشركات على الإنفاق. وقال كثير من أعضاء الاحتياطي الفيدرالي (المركزي الأميركي) إن ثلاثة ارتفاعات مقدرة في سعر الفائدة بمقدار 0.25 في المائة هذا العام، يمكن أن تصبح أربعة أو خمسة مرات وفقا للبيانات والمؤشرات الأميركية على مدار العام. ولا تزال التوقعات متفائلة بالبيانات الاقتصادية الأميركية، التي ستستمر في التعزيز على مدار العام، خاصة بعد قانون الإصلاح الضريبي لإدارة الرئيس دونالد ترمب الذي حصل على موافقة الكونغرس ديسمبر (كانون الأول) الماضي. ولكن المستثمرين يراهنون - مع تحسن الوضع الاقتصادي - على ارتفاع أسعار الفائدة ونتيجة لذلك يمكن أن تستمر اضطرابات سوق الأسهم. ومع الازدهار المتوقع للاقتصاد الأميركي ستعاني دول العالم النامي بسبب الاقتراضات الكبيرة وارتفاع تكلفة خدمة الديون، فيما يتمثل الجانب الإيجابي في زيادة صادرات تلك الدول خاصة إلى الولايات المتحدة نتيجة انخفاض أسعارها، الأمر الذي سيعزز من دخل العالم النامي.

وعلى العكس، فإنه من المحتمل أن تتمهل منطقة اليورو في زيادة أسعار الفائدة إلى أن يتم انتعاشها بشكل أقوى، الأمر الذي يعني أن اليورو سيستمر في الارتفاع مقابل الدولار، مما يجعل من الصعب على الدول الأوروبية التصدير إلى الولايات المتحدة.

وسيؤثر تقلب الأسواق العالمية على صحة الاقتصاد البريطاني على المدى الطويل، لكن انخفاض الثروة (محافظ الأسهم على سبيل المثال) وانخفاض الإنفاق الاستهلاكي سيحفظ توازن التأثير، ويقيس المتسوقون رفاهتهم المالية من حيث ثرواتهم القائمة على الأصول بقدر دخلهم، ونتيجة لذلك فإن الانخفاض الكبير في أسعار الأسهم قد يضر بالاقتصاد البريطاني.