الاتحاد الأوروبي

على مسافة 8 أشهر من إطلاق عملية انفصال بريطانيا عن الاتحاد الأوروبي "بريكست" في مارس/ آذار 2017، لم تحصل هجرة كثيفة للمؤسسات المالية من لندن كما كان متوقعًا على نطاق واسع بين أوساط المصرفيين، ومع ذلك تحقق باريس قصب السباق مقارنة بمدن أوروبية أخرى طمحت إلى الحلول محل العاصمة البريطانية كمركز مالي.

وتؤكد مصادر مصرفية فرنسية، أن نحو 3 آلاف وظيفة مصرفية جديدة خلقت في العاصمة الفرنسية خلال الآونة الأخيرة.

فقد أعلن بنك "إتش إس بي سي" أنه سيتخذ من باريس رأس جسر له في الاتحاد الأوروبي، بعدما أعلن "بنك أوف أميركا ميريل لينش" الأمر عينه غداة إعلان الهيئة المصرفية الأوروبية نقل مقرها إلى باريس.

وتتفوق باريس في هذا المجال على فرانكفورت التي لم تجذب حتى الآن إلا 1770 وظيفة.

وتبدد الأمل في إقدام "دويتشه بنك" على نقل 4 آلاف وظيفة إلى فرانكفورت، بعدما أعلن البنك أنه سيوزع أنشطته على عدد من المدن الأوروبية وفقًا للأهمية النسبية لهذه المدينة أو تلك، ووفقًا للأنشطة المراد نقلها من لندن بعد البريكست، كما وفقًا للمهارات التي يفترض توافرها في هذه المنطقة أو تلك من الاتحاد الأوروبي.

وكانت باريس قد شنت حملة تسويقية منذ غداة التصويت البريطاني على الخروج من الاتحاد الأوروبي، وعقدت عددًا من المؤتمرات، وأعلنت حوافز إغراء وجذب تزامنت مع بدء تطبيق خطة إصلاحية اقتصادية أطلقها الرئيس إيمانويل ماكرون، لتحسين مناخ الاستثمار وجذب المؤسسات الدولية عموما، والمالية والمصرفية منها على وجه الخصوص.

وشملت الحملة التسويقية لندن بطبيعة الحال؛ لكنها وصلت إلى نيويورك وطوكيو وبكين أيضًا، مستندة أساسًا إلى التعديلات الضريبية التي أقرتها الحكومة ووافق عليها البرلمان الفرنسي، وإلى أهمية باريس على الخريطة الاقتصادية أوروبيًا وعالميًا، والنتيجة حتى الآن هي كالآتي: ألف وظيفة أعلن بنك "إتش إس بي سي" أنه سينقلها إلى باريس، إلى جانب ألف أخرى ستنقلها المصارف الفرنسية العاملة في لندن، و400 وظيفة لـ"بنك أوف أميركا"، و200 لبنك "جي بي مورغان"، و200 لبنك "غولدمان ساكس"، و80 لبنك "مورغان ستانلي"، و50 لبنك "ستاندرد تشارترد".

في المقابل، حظيت فرانكفورت بنحو 300 وظيفة من "غولدمان ساكس" و300 من "جي بي مورغان" و200 من "مورغان ستانلي".

أما دبلن فحظيت بنحو 175 من "باركليز" و1000 من "جي بي مورغان" و170 من "ويلز فارغو"، وبذلك تكون باريس في المقدمة حتى الآن؛ لأنها استقطبت 3 آلاف وظيفة مقابل 1770 لفرانكفورت و1640 لدبلن.

وتؤكد المصادر الفرنسية أن هناك نحو ألفي وظيفة ستعلن قريبًا، لتصل فرنسا إلى تحقيق نصف الهدف الذي وضعته قبل سنتين، والمتمثل باستقطاب 10 آلاف وظيفة مالية ومصرفية جديدة، مضيفة "لا شك في أنه كان لوصول الرئيس ماكرون إلى الرئاسة بعض الأثر في جذب تلك الاستثمارات وغيرها؛ لأنه أطلق جملة إصلاحات كانت كلها في مصلحة أرباب العمل، فضلًا عن الخفض الضريبي الذي أجراه غير عابئ بالنقمة النقابية والعمالية التي واجهته.

كما أن فرنسا استفادت من حالة عدم اليقين السياسي التي سادت ألمانيا بعد الانتخابات الأخيرة، والتي على إثرها تعذر تشكيل حكومة بسرعة.

وعندما تشكلت تلك الحكومة وجدت المستشارة أنجيلا ميركل نفسها فيها أضعف من قبل".

وتشير المصادر المصرفية الفرنسية إلى أن باريس تشهد حاليًا وصول وفود من البنوك العالمية لمفاوضة السلطات على حوافز إضافية، وتجد لدى إدارة الرئيس ماكرون كل التجاوب؛ لأن ماكرون في الأساس مصرفي عمل طويلًا لدى بنك "روتشيلد"، ويعرف جيدًا اللغة التي تجذب البنوك عمومًا والبنوك الاستثمارية منها خصوصًا.

لذا رأينا كيف أن "جي بي مورغان" رفع العدد المستهدف في باريس من 60 إلى 200 وظيفة، وكيف أعلن "غولدمان ساكس" أنه سيضاعف الوظائف التي سيخلقها أو ينقلها إلى فرنسا، وكيف أن "مورغان ستانلي" يزيد حضوره بنسبة 66 في المئة في العاصمة الفرنسية، إلى جانب "سيتي بنك" الذي لم يتوان عن إعلان اتخاذ باريس مقرًا مركزيًا أوروبيًا لنشاطه الاستثماري، كما ينظر "ويلز فارغو" في زيادة حضوره الباريسي.

أما "بنك أوف أميركا ميريل لينش" الذي صادف صعوبات توظيف في فرانكفورت، فبات ينوي رفد مقره في باريس بنحو 400 إلى 600 وظيفة جديدة.

وقال مصدر مالي رسمي في بروكسل "نتوقع أن معظم الوظائف المالية والمصرفية التي ستتأثر بالبريكست ستكون من نصيب باريس.

وهذا ما دفع وزير المال البريطانية فيليب هاموند إلى القول عبر "فايننشيال تايمز" الإثنين الماضي، إن بريطانيا تواجه تشددًا أوروبيًا تقوده فرنسا، ولذلك جملة أهداف أبرزها جعل باريس تلعب دور لندن مستقبلًا على الصعيد المالي".

وكان هاموند قد طلب من المؤسسات في حي المال زيادة التواصل مع وزارة المالية والبنك المركزي، لإيجاد بدائل نمو تركز أكثر على الأسواق الناشئة.

وتسعى فرنسا الآن إلى إغراء بنوك عالمية أخرى كبيرة، لا سيما آسيوية، وتحديدًا صينية ويابانية، لإقناعها بأن باريس أفضل مكان لها بعد البريكست، أي بعدما يواجه العاملون في حي المال اللندني صعوبات في تسويق خدماتهم ومنتجاتهم في دول الاتحاد الأوروبي الـ27.

وما جذب "إتش إس بي سي" و"ستاندرد تشارترد بنك"، وهما البنكان البريطانيان اللذان يحصلان على معظم إيراداتهما من آسيا، إلا خطوة مشجعة لجذب بنوك آسيوية تقتدي بهما وببنك "نومورا" الياباني، الذي أعلن أنه سيزيد حضوره في باريس بنسبة 66 في المئة.

إلى ذلك تجذب باريس مصارف عربية لها فروع في لندن، مثل بنك الكويت الوطني، والمؤسسة العربية المصرفية. فقد علمت "الشرق الأوسط" أن البنكين طلبا من السلطات الفرنسية زيادة وجودهما في العاصمة الفرنسية، وقد يشمل ذلك البنك العربي أيضًا وفروع مصارف عربية أخرى عاملة في لندن وترغب في الانتقال منها، إذا تعذر الوصول إلى اتفاق بريطاني أوروبي يحفظ لحي المال اللندني مكانته بالنسبة للأموال العربية والدولية.