واشنطن - رولا عيسى
أشعلت مطالبة الاتحاد الأوروبي شركة "أبل” الأميركية بسداد مبلغ 14.5 بليون دولار كديون متأخرة، حربًا بين حكومات عدد من الدول, حيث كانت تتسابق في الماضي لخفض ضرائبها لتحفيز الشركات على “ركن أموالها” في بنوك هذه الدول أو تلك, وباتت تنخرط في جولات من المواجهات لتحصيل الضرائب من الشركات الكبيرة، طمعاً في مردودها الضخم على خزينتها.
وتصدت وزارة الخزانة الأميركية يؤازرها الكونغرس، للمطالبات الأوروبية لـ “أبل”، واعتبرت أن مقرّها هو الولايات المتحدة، وبذلك لا يمكن لإيرلندا مطالبتها بضرائب, والواقع وبعيداً من الشعبوية القومية، تسعى واشنطن إلى انتشال “أبل” من مخالب الضرائب الأوروبية، لكن هذا الإنقاذ ليس مجاناً، بل يهدف إلى استيلاء الخزانة الأميركية على هذه الضرائب، أو على الجزء الأكبر منها.
وتشير التقديرات إلى أن لدى الشركات الأميركية 3.5 تريليون دولار من الأموال المكدسة في بنوك خارج الولايات المتحدة. وسعت هذه الشركات على مدى العقد الماضي ولا تزال، للاستحصال على عفو ضريبي “لمرة واحدة”، كي تتكمن من إعادة أموالها الضخمة إلى البنوك الأميركية، من دون دفع المستحقات الضريبية، والتي تصل إلى 35 في المئة على الشركات في الولايات المتحدة، وهي من أعلى النسب في العالم.
ويَعِد المرشح الجمهوري للرئاسة دونالد ترامب بخفض الضرائب على الشركات إلى 15 في المئة، وتقديم إعفاء ضريبي يسمح للشركات الأميركية بإدخال أموالها المكدسة في الخارج. فيما لا تعِد مرشحة الحزب الديموقراطي هيلاري كلينتون بأي تخفيضات ضريبية، فهي تتمسك مثل الرئيس باراك أوباما بالمبدأ القائل، إن من شأن منح الشركات الكبيرة إعفاءات ضريبية تقويض العدالة الضريبية في البلاد. وإذا كانت الحكومة الأميركية تنوي منح إعفاءات ضريبية، فالأجدى بها منحها لمَن يحتاج إليها أكثر، مثل عائلات الطبقتين الفقيرة والمتوسطة.
وتحاول في هذه الأثناء ومن طريق اللوبيات التابعة لها، الشركات الأميركية إقناع الحكومة والرأي العام بأن من شأنها إعادة مبلغ 3.5 تريليون دولار، أن يساهم في رفع نمو الناتج المحلي, وتعد هذه الشركات المكتتبين في أسهمها المالية، بأن إدخال الأموال إلى أميركا سيسمح لها بتوزيع عائدات مرتفعة, وتفيد الشركة بأن توزيع العائدات يضع أموالاً إضافية في أيدي أميركيين كثر، كما أن لذلك انعكاسات إيجابية على تسريع العجلة الاقتصادية.
لكن المشككين يردون بالقول إن عدد المكتتبين الأميركيين أصغر من أن يؤدي إنفاقهم على التأثير في حركة العجلة الاقتصادية. وتنفق الشركات الأميركية الكبيرة مثل “أبل” و”غوغل” و”فيسبوك” وغيرها، مبالغ طائلة لتمويل شراء النفوذ داخل العاصمة الأميركية. وعلى سبيل المثال، أنفقت شركة “ميدترونيكس” لصناعة المعدات الطبية وحدها مبلغ 5.3 مليون دولار عام 2014، على فريق اللوبي العامل لديها في واشنطن.
وبسبب الضريبة المرتفعة في الولايات المتحدة، عمدت بعض الشركات الأميركية إلى شراء شركات في دول تفرض ضرائب أدنى واندمجت معها. واعتبرت أن مقرها الجديد هـــو في هذه الدولة. لكن هذه الظاهرة أثارت رد فعل غاضب بين السياسيين والمواطنين الأميركيين، الذين اعتبروها تهرباً من الضريبة الأميركية، فيما تتمتع هــذه الشركات بحق التوزيع والبيع في الســـوق الأميركية الضخمة، كما تستفيد من البنـــية التحتية الأميركية والموارد البشرية وحكم القانون. وهي تفوز أيضاً بعقود حكومية أميركية كبيرة. وعلى رغم كل هذه المغريات، تسعى الشركات الأميركية إلى تفادي الحمل الضريبي المطلوب منها.
لكن شركات مثل “مدترونيك” لم تتراجع أمام الضغط السياسي والشعبي، بل انتقلت إلى دبلن (إيرلندا) حيث تصل الضريبة إلى 12.5 في المئة بدلاً من 35 في المئة في الولايات المتحدة. ولأن الشركة لم تعد أميركية نظرياً، لم تعد دائرة الضرائب الأميركية قادرةً على ملاحقتها.
ووفق القانون، لو بقيت “مدترونيك” أميركية وسددت ضريبة الـ 12.5 في المئة لدبلن، يتوجب عليها تسديد 17.5 في المئـــة المتبقية للحكومة الاميركية. لكن لأن “مدترونيك” تصنّف نفسها غير أميركية، فهي تكتفي بتسديد النسبة الأولى لإيرلندا، ولا تسدد اي مستحقات ضريبية لأميركا. وبدلاً من التراجع أمام الضغط الشعبي، زادت “مدترونيك” من إنفاقها على اللوبي التابع لها، ووعدت بعض أعضاء الكونغرس بفتح فروع في ولاياتهم ومقاطعاتهم وتوظيف مئات من ناخبيهم، فتحول الأعضاء هؤلاء إلى أبرز الداعمين لهذه الشركة.
ودفع هذا التلاعب على الثغرات القانونية، أميركا والحكومات الأوروبية إلى تكثيف اللقاءات المختصة بمعالجة ظاهرة تهرّب الأفراد والشركات من سداد الضرائب المتوجبة عليهم لدولهم. لناحية الأفراد، أمضت الولايات المتحدة الأعوام الثلاثة الماضية في فرض قانون “فاتكا”، الذي ينص على ضرورة أن تكشف مصارف العالم عن أي حسابات تابعة لمواطنين أميركيين، كي يتسنى لدائرة الضرائب ملاحقتهم ومطالبتهم بسدادها تحت طائلة الجزاء القانوني, أما بالنسبة إلى الشركات، فإن العملية معقدة أكثر، إذ تحتاج إلى تنسيق أكبر بين الحكومات، ومحاولة التوصل إلى تفاهم يمنع الشركات من التلاعب، وربما محاولة الوصول إلى نسب ضريبية متقاربة، كي تصبح عملية التلاعب التي تمارسها الشركات حالياً غير مربحة.
وبدأت المواجهة بين الحكومات الغارقة في الديون والشركات العائمة على كميات نقدية ضخمة، تخفيها في بنوك العالم خوفاً من سداد الضرائب المتوجبة عليها, فيما أطلقت الشركات اللوبيات التابعة لها، وهي تقدم الوعود للمشرعين بمكافأة ولائهم بخلق وظائف لناخبيهم. أما كيف تتطور هذه المواجهة، ومَن يفوز ومَن يتراجع، فالسنوات القليلة المقبلة ستحمل الإجابة من دون شك.