عالم تراث الآباء والأجداد

مبحر في عالم تراث الآباء والأجداد، وهو الشاعر حين تحتاج القصيدة إلى وزن وهو الراوي حين تتبعثر وتختلط الرواية، وهو رجل التراث في قرية البدو بقلب الشارقة القديم، يحتفل مع أيام الشارقة التراثية مشاركا في فعالياتها بكل فخر، وعندما تزره تجد الابتسامة تسبقه بالترحاب بالزائر، يقف للضيف يحيه ويسلم عليه بكل حرارة وعفوية البدوي، وينزله في "الحضيرة" أو "البريزة"، امام دلة "القهوة التي تبقى ساخنة" كما قلبه للضيف، على جمر حطب السمر، في منطقة سهيلة حيث يقطن، يقدم لضيفه التمر وما أن ينتهي حتى يمسك الدلة والفناجين، وحينها تصدر الفناجين صوتاً مثل صليل السيوف عندما تحتدم المعركة، يحركها في يده ليجذب انتباه الضيف ليرى ترقرق قطرات القهوة من الدلة الى الفنجان، في كرم عرف به العرب منذ آلاف السنين تكريماً للضيف، وينشد بعض الأبيات والزائر يستمع له وهو يرتشف القهوة العربية .

هو مطر بن علي بن غرير الكتبي، رجل من الزمن الجميل ببساطته وحبه للتراث لحد العشق، تجده يهب ويتكبد عناء السفر من قرية "سهيلة" في ضواحي مدينة الذيد، ليصل قلب الشارقة، حيث تقام فعاليات أيام الشارقة التراثية، كل يوم ليلبي نداء إحياء تراث الآباء والأجداد، الذي تفضل صاحب السمو الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي عضو المجلس الاعلى حاكم الشارقة، بافتتاحها في الاول من نيسان/ إبريل واستمرت لمدة أربعة وعشرين يوماً من الفعاليات والأنشطة التراثية .

مطر بن غرير يعيش في كنف الطبيعة بكل بساطة وهدوء وراحة بال في قرية "سهيلة"، حيث تعيش المنطقة حياة البداوة القديمة مع الاستفادة من الوسائل الحديثة للتغلب على الظروف الصعبة التي كانت تمر بها سابقاً .

عاش مطر بن غرير مع أفراد عائلته وأهله متنقلاً بين طوي "بن غرير" وطوي "سهيلة" وصولاً إلى طوي "الزبيدة" وطوي "مرقبات"، وهذا التنقل في موسم الصيف حيث يقل المطر بهدف تأمين مياه الشرب لهم ولحيواناتهم، وفي الشتاء حين تجود السماء على المنطقة تنصب بيوت الشعر، وعندها يشتغل مطر بالاهتمام بإبله وحيواناته في أهم المهن التي أمتهنها أهل البادية، ويسعى في الوقت نفسه إلى توفير الحطب والفحم والثمام، ويشدها إلى ظهور الإبل لنقلها عبر الرحلات إلى الشارقة والذيد لبيعها، ومن هناك يتبضع لأسرته القهوة والخبز وهو ما يعرف ب"المير" . 

التحق مطر بن غرير بقوات الساحل المتصالح التي تأسست في الشارقة العام ،1951 ففي بدايات الستينات من القرن الماضي سجل مطر اسمه مع جمع من أهالي المنطقة، استمر ابن غرير في العمل في القوات المسلحة حتى أحيل إلى التقاعد، ومن ثم طلبت وزارة التربية والتعليم انضمام المواطنين إلى كادر حراسة المدارس فانضم مطر إلى كادر الحراس وبقي حتى فترة قريبة يعمل في هذه المهنة .

ارتباطه بالعمل وتفانيه جعله يقضي وقتا طويلا فيه، إلا أنه ما أن يعود إلى أحضان بيئته البدوية حتى يسارع إلى أن يوفر احتياجات أسرته، ومن ثم ينطلق مسرعاً حيث عزبته يطمئن على ابله التي توارثها جيل بعد جيل، يحادثها ويخبرها عن يومياته فهي كاتم أسراره .

يؤمن مطر بن غرير أن عادات وتقاليد جيله يجب أن تبقى وأن تستمر تتوارثها الاجيال، فمن ليس له ماض ليس له حاضر ولا مستقبل، انطلاقاً من هذه المقولة للمغفور له بإذن الله الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان رحمه الله، يقول مطر: "الشيخ زايد رحمه الله مدرسة" ونحن تلاميذ فيها، وهو من أكد علينا التمسك بهذا التراث لكي لا يضيع وأن نحرص على تعليم أبنائنا عادات وتقاليد مجتمعهم الأصيل، اليوم الصغار يعيشون حياة سريعة مشاغلها كثيرة، وأيام الشارقة التراثية متنفس للعودة إلى الزمان القديم، وفي كل زاوية من الأيام توجد بيئة تمثل مجتمع الإمارات من البحر والصحراء والجبل، ونحن هنا في البيئة البدوية، نسعى إلى نقل هذا التراث الذي في صدورنا إلى قلوب وعقول جيل اليوم، نعلمه عادات وتقاليد وحياة آبائه وأجداده، والتي هي "السنع"، وكل فرد موجود في هذا المكان يقوم بدوره ليحاكي الحياة التراثية القديمة لأهل الإمارات .

ويتابع: "وين ما يكون في فعاليات للحفاظ على التراث تجدنا أول الحضور نسهم فيها لأنها رسالة يجب أن نؤديها لحفظ تراثنا وعاداتنا الأصيلة"، والشيوخ الله يطول في اعمارهم ما قصروا في توفير كل السبل والامكانيات لمثل هذه الفعاليات، يبقى على كل أب أن يحث الصغار والكبار من أبنائه للتفاعل والمشاركة والتعلم بالحضور إلى المهرجانات التراثية لأن المجالس مدارس، الحياة مدرسة كبيرة والنجاح فيها يحتاج إلى التزود بالعزيمة والإرادة القوية، الإيمان بالله وحده يكفي فهو سر النجاح.