روايته الجديدة "لا يحظى الجميع بنهاية سعيدة"

يقدم الكاتب محمد خميِس في روايته الجديدة "لا يحظى الجميع بنهاية سعيدة"، نموذجاً مختلفاً عن السائد والمألوف في السرديات الإماراتية والعربية الكلاسيكية أو المعاصرة . ويمكن اعتبارها مغامرة روائية تجريبية بامتياز، إذ لا ينحصر وجه الاختلاف أو المغايرة على المستوى الفني، سواء لجهة أسلوب السرد وتكنيك التداعي والحبكة الأدبية، أو لجهة تعددية الأصوات الروائية وبناء الشخصيات في اللعبة الروائية وتطورها بما يتماهى مع الوقائع أو الأحداث، إنما يتعداها إلى شكل الحكاية، التي تبدو في سياق النص، وكأنها حكاية فانتازية تتمظهر بالوقوف على التخوم ما بين الخيال والواقع، بالحدود الصارمة التي تستجيب للشرط الأول في الفن الروائي .
 ولكنها في الحقيقة هي حكاية فانتازية مغرقة برومانسيتها التخييلية وتداعياتها المبسطة التي تقارب السذاجة ببراءتها، وتلامس مسرح العبث بهذيانها، أو الكوميديا الباكية الضحوك بسوداويتها، وفي الوقت عينه، هي حكاية مثقلة بالرموز والدلالات والإشارات الكاشفة، المتوهجة، الساطعة، التي تحيل الذهن إلى الواقع بمنتهى الصدق العاري، الذي لا يقبل التأويل أو التضليل، بل تحيله إلى قلب الواقع كما هو بكل فجاجته وقسوته، بكل مرارته وإخفاقاته وبكل انكساراته وارتداداته، ما يصفع الوعي ويعيده إلى مواجهة الحقيقة المؤلمة، التي تهز الناموس وتجرح الوجدان وتغور عميقاً في الذات، عندما تصبح الذات وحيدةً بمواجهة خيباتها وإحباطاتها من دون أدنى رتوش أو تزييف .
تقوم اللعبة الروائية في النص على مجموعة من المخاتلات أو المراوغات الفنية الشائقة، تجعله يبدو وكأنه مكتوب ب "طلقة نفس واحدة"، - إن صح التعبير - رواها حكواتي واحد، متمرس بالحكي، بل محترف بفنون الروي أو السرد، راوٍ متمكن من ضبط إيقاع الكلام أو نبرات الحكي، التي تصعد بالأحداث إلى قمة الذروة حيناً، وتنحدر بها إلى حافة الهاوية حيناً آخر، وفي الوقت نفسه يتمكن من ضبط إيقاع التلقي الذي يفرض على القارئ اللهاث وراء السر أو ما يمكن أن نسميه "شيفرة النص" . ما يُحتم قراءة النص ب "طلقة نفس واحدة" . فعلى المستوى الزماني - بالنسبة إلى وقائع أو مجريات الأحداث وعصر الشخصيات - يفاجئنا الكاتب بزمن أكثر من واقعي، بل هو يعاش في العصر الراهن لحظة بلحظة، وربما يسكن الهواء الذي نتنفسه، والماء الذي نشربه والغذاء الذي نقتات به .
أما على المستوى المكاني فيُصر الكاتب في تصديره للنص على أن "كل وقائع، وشخصيات، وأسماء المناطق، والبلدان في هذه القصة حقيقية" . وبالمقابل يُصِر الراوي (البطل) منذ الصفحة الأولى على أنه مكان افتراضي متخيل، ولكنه يمكن أن يكون مدركاً ومحسوساً، وربما ملموس بكل حيثياته أو تفاصيله من دون أدنى لَبْس . حسبما يقول الراوي: "أدعى إبراهيم مطر، أنتمي إلى مملكة جزيرة الروضة، وهي إحدى ممالك الجزر الأربع، تقع في خليج عمان، لها جسر يربطها بدولة الإمارات العربية المتحدة، وآخر بسلطنة عمان، ونفق بحري طويل يربطها بكل من قطر والبحرين . ترتيبي السابع بين أحد عشر أخاً، سبعة أولاد وأربع بنات" .
وكذلك الأمر بخصوص مسألة البناء الدرامي للشخصيات، التي يفترض أن تتدرج في الرواية، بما يتناسب مع تصاعد الأحداث وتشابك المواقف في سياقاتها الصراعية أو القدرية، فنجد أن الكاتب يلجأ إلى أسلوب غير معهود في الفن الروائي، حيث يَتقصد منذ الصفحة الثانية بالنص، تقديم رسم محدد وتعريف دقيق لمعظم شخصيات الرواية الرئيسية، الذين هم أسرة البطل، (باستثناء أحمد ووالده وسيف ووالده وحصة) . فالشقيق الأكبر محمد "كان أبينا الصغير، مسؤولنا الرؤوف، عمنا الكريم"، يليه سالم "إخونجي"، بينما عبدالله ليبرالي، وهما على طرفي نقيض طالما التقيا، والرابع في قائمة الأخوة، إبراهيم مطر (البطل - الراوي) هو "خلطة" من الجُبن والنذالة والأنانية المعجونة بالرومانسية والشفافية المرهفة، بنكهات إنسانية تتلاطم فيها المواقف الأخلاقية بين مد وجزر دائمين . أما غانم فاستقل بزوجته وانبتر عن الأسرة، وحميد فهو مبتلى بلوثة عقلية . في حين أن وليد آخر العنقود كان يعيش حياة مختلفة بسبب صداقته مع أحد أبناء أعيان المملكة، وعندما اختطف الموت صديقه الميسور، ضربته الكآبة واتجه إلى المخدرات التي لم يصح منها إلا بالحرب . أما البنات ياسمين ونادين ورقية وخولة فهن متساويات بالتهميش والاستلاب في المجتمع البطريركي، ومع ذلك لكل منهن شخصية متفاوتة عن الأخرى لجهة التعبير عن ذواتهن واختياراتهن، ما إن لاحت لهن بارقة حرية لذلك شاركن بالعمل والحب والزواج والمقاومة بمقدار تمايزاتهن، وواجهن أقدارهن بشجاعة لا تقل بطولة عن الرجال، حتى نادين التي سبق وأرغمت على الزواج من رجل يكبرها بعشرين عاماً، لأنه "مريّش"، أو لأن "المستقبل معه مضمون"، من دون نأمة امتعاض أو رفض واحتجاج، إلا أنها رفضت الهرب والالتحاق بالزوج، وقامت بدورها الوطني واستشهدت كما يليق بالأبطال .
أيضاً من جملة المخاتلات الفنية الماكرة، التي يلجأ إليها الكاتب، ويمارسها بحذاقة تنطوي على قدر كبير من الإقناع، ما يتعلق منها بأسلوب السرد، الذي بدى متدفقاً بعفوية متناهية، بحيث يبدو الراوي، وكأنه يستميت بصدقه وسرده، الذي لم يقطعه سوى الأيمان المغلّظة، التي يقطعها للمتلقي، بأن كل ما يرويه هو الصدق الخالص، والحقيقة التي لا يداخلها شك من أمامها أو من ورائها، حتى في أكثر لحظات السرد فانتازية، وبعداً عن الواقع، أو في تشديده بأن ما يهمه من القصة، هو انتم، و"سوف أطلعكم في البداية كيف أتتني فكرة كتابة هذه الرواية، لن أسميها رواية، حتى لا تدرجوني ضمن أولئك النخبة، ولن أخاطبكم بلغة فوقية، هي قصة لكم أنتم، وأتمنى ألا تقرأها النخبة، بل أتمنى أن يرموها في سلة المهملات، ويتجاهلوها، ويتكبرون عليها كعادتهم، أتمنى أن تقتلهم ركاكتها، ويصيبهم الملل من وقع أحداثها، لا يهمونني، من يهمني هو أنتم ولا أحد سواكم" . وهي مخاتلة بارعة تنطوي على بعدين من الاستدراج والتشويق:
- البعد الأول يستدرج المتلقي لمشاركة الراوي غضبه، وضيقه بالحقيقة التي تفقأ العيون، ومع ذلك تصر النخبة على تجاهلها وعدم رؤيتها . لذلك تستثنيها الكتابة، أو السرد، من التلقي، وتنحاز إلى البسطاء من الناس العاديين .
- البعد الثاني يستدرج المتلقي لغواية السرد وفتنة البساطة، إذ عندما تعلن الكتابة انحيازها للأغلبية من البسطاء والعاديين من الناس، فهذا يستدعي انحيازهم التلقائي لها والانغماس بلعبتها أو الانقياد مع موجتها . ما يجعل الكتابة أو السرد أقرب من حديث المجالس، الذي غالباً ما يتميز بالدفء والحميمية .
ولكن من ضمن المخاتلات الفنية التي أصابت أهدافها التجريبية بمهارة عالية في كل مراميها السردية والأسلوبية والبنائية والشكلية، لا بد من الإشارة إلى إخفاقها عندما تَقَصدَت "مطحنة اللغة" بسياق ما سميناه انحياز الكتابة للناس العاديين، ولم يكن ذلك مبرراً أو مفهوماً على الإطلاق، ولا يجوز أن يكون بأي حال من الأحوال تهشيم اللغة أمراً مقبولاً تحت أي مرمى، وهذا ما أصاب لغة السرد بمقتل، وجعل وهجها التجريبي يخفت قليلاً .
تنفتح الرواية على مسارات متعددة، تتقاطع فيها الأقدار الفائقة بغرائبية تستعصي على التصور، بحيث تصل الأحداث في بعض المواقف إلى ما يتجاوز حدود المنطق، وخاصة عندما يُقدِم الابن على قتل الأب، بعدما ظن أنه يتعامل مع الاحتلال، لأنه شاهده يتلقى مظروفاً من أحد الضباط الأجانب ويعطيه بدوره مظروفاً آخر، وقطع الشك باليقين بعد أن داهمت قوة للإحتلال بقيادة الضابط بهرام، الذي كان والده يحذرهم منه، واعتقلت نواة المقاومة بما فيها البنات، وأخذت تسأل عن البطل إبراهيم مطر بالاسم، بحثاً عن أبي سيف الذي لا يعرف مكانه أحد سوى الابن القاتل والأب القتيل وإبراهيم المطلوب وشقيقه سالم، ليكتشف لاحقاً أن والده كان يشتري المعلومات من هذا الضابط، وأن العميل هو سالم "الإخوانجي"، الذي تلاقى مشروعه الإسلاموي مع المحتل لإقامة دولة الخلافة، ففشى لهم بالسر . ومع ذلك تبقى المفارقات على قسوتها ولا عقلانيتها مقبولة في سياق عرض تداعيات ومفاجآت الحرب، التي من طبيعتها تحطيم نواميس المنطق والعقل . وهي مفارقات دفع بها الكاتب إلى ذرى من الغرائبية والتشويق والإثارة المفرطة، تتمازج فيها العواطف الشخصية بالانتماء الوطني، مع النزعات الإنسانية، بخيرها وشرها، بقوتها وضعفها، في صراع عنيف لا يخلو من الصدمات التي تثير الدهشة والمتعة في آن واحد .