نيودلهي - صوت الإمارات
تنتصب قلعة من العصور الوسطى بالقرب من الأطراف الغربية لولاية راجستان الهندية، فوق تل مرتفع في قلب الصحراء ببلدة جايسالمر، كأنها قلعة رملية ذهبية، وشيَّدت هذه القلعة المكونة من أكثر من 20 طابقا في عام 1156، وتحيط بها ثلاثة أسوار وأربع بوابات ضخمة ويعلوها 99 برجا.
وأدرجت قلعة جايسالمر ضمن قائمة اليونيسكو للتراث مع خمس قلاع أخرى مهيبة في ولاية راجستان، واستمدت بلدة جايسالمر لقب "المدينة الذهبية" من لون الحجر الرملي الأصفر الخلاب الذي استخدم في بناء هذه القلعة المحصنة.
لكن هذه القلعة ليست معلما تاريخيا ومعماريا بارزا فحسب، بل يعيش فيها أيضا أحفاد السكان الأوائل للقلعة مجانا منذ أكثر من 800 عام، وتتراوح أعدادهم الآن بين 2,000 و4,000 ساكن، إذ منح ملوك جايسالمر أجدادهم هذه الأرض في مقابل خدماتهم للمملكة.
ولا تزال قلعة جايسالمر، التي تعد آخر القلاع المسكونة في الهند، أثرا ينبض بالحياة، إذ تموج باحتها المزدحمة ودروبها الضيقة بالمارة والزوار منذ القرن الثاني عشر.
وتعيش عائلة فيمال كومار غوبا داخل القلعة منذ أكثر من 700 عام، ويدير غوبا البالغ من العمر 44 عاما معرضا للمنسوجات.
وكانت هذه المنطقة في الماضي لا يسكنها إلا أفراد طبقة البراهمة، أعلى الطبقات الاجتماعية التي تضم الكهنة، وكانوا يعملون كمعلمين ومستشارين لملوك بلدة جايسالمر من القرن الثاني عشر وحتى منتصف القرن العشرين، ومنحهم الملوك منازل داخل القلعة، وبعد مرور 700 عام، وتعاقب 23 جيلا، تمتلك عائلة غوبا، التي كانت تنتمي لطبقة البراهمة، 42 منزلا داخل القلعة.
وإلى جانب البراهمة، يعيش أيضا في القلعة أحفاد المحاربين الهندوسيين من طائفة راجبوت شمالي الهند، الذين كانوا يتولون حماية المدينة والقلعة المحصنة بالأسوار. ويقول غوبا إن ألقاب السكان في القلعة تدل على الطبقات التي كانت تنتمي إليها عائلاتهم في الماضي.
ويقول جيتيندرا بوروهيت، بائع في معرض مشغولات يدوية في دروب القلعة الضيقة، وتنتمي عائلته إلى طبقة البراهمة: "تعيش عائلتي هنا منذ 400 عام، وهذا هو منزلنا الوحيد الذي نعرفه".
وأثناء تجولي داخل أسوار القلعة، تحدثت إلى أصحاب المتاجر والسكان داخل منازلهم، وقال معظمهم إنهم ولدوا في القلعة ويعملون داخلها، وأصبحوا يكسبون قوتهم في العقود الأخيرة بتحويل أجزاء من منازلهم إلى متاجر أو مقاه أو نُزل.
ويوفر السكان داخل أسوار القلعة منذ أكثر من 800 عام الخدمات التي يحتاجها المسافرون القادمون عبر الصحراء
وفي القرن الثاني عشر، شيد حاكم المدينة راوال جايسال، قلعة جايسالمر وسميت المدينة على اسمه. وفي الفترة ما بين القرنين السادس عشر والثامن عشر أصبحت المملكة إحدى أهم المحطات على طريق الحرير، الذي كان يربط بين أوروبا والصين عبر الهند وأفغانستان وتركيا ومصر. وكانت قوافل التجار القادمة من الشرق محملة بالحرير والأحجار الكريمة والبهارات والشاي والأفيون تتوقف في خانات بلدة جايسالمر الصغيرة ذات الباحات الفسيحة طلبا للطعام والماء والمأوى للمبيت.
وحقق حكام المدينة ثراء من توافد المسافرين على المدينة، وأقام التجار الأثرياء قصورا ومعابد وخانات داخل أسوار جايسالمر وخارجها.
وبعد مرور مئات الأعوام، لم يتبق من آثار طريق الحرير في المنطقة سوى بعض القرى المهجورة ولافتات حجرية وحصون متداعية وسط الصحراء القاحلة؛ لكن دروب مدينة جايسالمر الملتوية وجدرانها المبنية من الحجر الرملي لا تزال تجتذب الزوار للنزول في فنادقها وارتياد مطاعمها العديدة، وتعاقبت أجيال من السكان على خدمة المسافرين وتوفير احتياجاتهم لقرون.
وأصبحت دروب القلعة اليوم مكتظة بالمقاهي والمطاعم والمضايف والمنازل، والمعابد، والمتاجر الصغيرة. ولا يزال سكان المدينة، ولا سيما الذين يعيشون داخل أسوار القلعة، يجنون المال من السياح، ويدير بعضهم مطاعم صغيرة، بينما يبيع آخرون حقائب فاخرة من جلد الجمال.
وينادي أصحاب المتاجر على المارة لمعاينة بضائعهم من عمامات زاهية الألوان إلى لوحات من القماش المطرز.
ويعيش اليوم داخل القلعة أحفاد سكانها الأوائل الذين يتراوح عددهم الآن بين 2,000 و4,000 ساكن مجانا؛ لكن مجتمع السكان داخل القلعة لا يزال مترابطا، رغم توافد الزوار عليها. ولاحظت وجود لوحات مبهجة أمام الكثير من المنازل بالبلدة تعلن عن زفاف عروسين من سكان القلعة.
وتحمل اللوحات صورة الإله "غانيشا"، الذي يتجسد في صورة فيل، وهو إله الحياة الجديدة. ولا أحد في هذا المجتمع الصغير يحتاج لدعوة رسمية، بحسب غوبا.
ويقول غوبا، "جميع السكان هنا بمثابة عائلة واحدة، تبدأ الحدود وتنتهي عند البوابة الرئيسية التي تفصلنا عن البلدة. نجتمع معا في الأفراح كما في المصائب." ويقول بوروهيت: "إن أفضل مزايا العيش في هذه القلعة هو التجانس الذي يسود بين السكان منذ قرون".
ويضيف "من البوابة الرئيسية، سرت في طريق ضيق ومتعرج مليء بالمحلات، وتشق المركبات البخارية طريقها بصعوبة وسط حشود المارة، ورأيت نساء البلدة يرتدين ثيابا ملونة وأغطية رأس زاهية، ويحملن الأزهار وأعواد البخور إلى المعبد داخل أسوار القلعة".
وأوضح "قادتني إحدى الأزقة إلى قصر "با ري"، وهو قصر قديم عمره 450 عاما تحول إلى متحف يعرض مقتنيات السكان داخل القلعة من القرن الخامس عشر إلى اليوم، بداية من العملات المعدنية والخرائط القديمة والصور الباهتة وأدوات الطهي وحتى العمامات، وغيرها من آثار الماضي. ولكن اللافت أن هذا التاريخ لا يزال حيا في دروب القلعة"، إذ يرتدي السكان اليوم نفس العمامات الملونة المعروضة في المتحف، ويستخدمون نفس الأواني والصحون البرونزية، ويحتفلون بمهرجان الألوان الهندوسي "الهولي" ومهرجان الأضواء "الديفالي" كما كان أجدادهم يحتفلون بها منذ مئات الأعوام، ولم تتغير كذلك الطقوس الدينية اليومية في المعابد الهندوسية والجاينية العديدة داخل أسوار القلعة.
ويقول راكيش فياس مدير المتحف الذي عاش في قصر "با ري" طيلة حياته وينحدّر من العائلة التي تمتلك القصر، "كان هذا القصر في حالة مزرية"، ويصف عملية ترميمه وتجميع التحف بأنها كانت طويلة وشاقة، ولم يتلق دعما من الحكومة أو من أي جهة أخرى.
ومنذ أن أصبحت القلعة إرثا محميا لم يعد بوسع سكانها بيع منازلهم إلى أي شخص من الخارج أو تغيير شكل واجهاتها
لم يستغرب غوبا من إهمال الحكومة للقصر. إذ أدرجت هيئة المسح الأثري في الهند، وهي الجهة الحكومية المسؤولة عن حماية معابد الدولة وحصونها ومواقعها الأثرية، قلعة جايسالمر ضمن الآثار التراثية المحمية. وأصدرت الهيئة قرارا بمنع سكان القلعة من بيع منازلهم إلى أي شخص من الخارج أو تغيير واجهات القلعة بأي شكل. ولكنها لم تقدم أي دعم مادي لصيانة القلعة حتى الآن.
وتواجه القلعة مصير القصور المهجورة ذاتها، "إن لم تنل الاهتمام الكافي، فهذه القلعة مبنية على صخور رسوبية ناعمة وتتسرب المياه من نظام الصرف القديم داخل القلعة على قواعدها منذ سنوات عديدة. والأسوأ من ذلك، أن أعمال البناء والإصلاح العشوائية داخل القلعة أدت إلى انهيار بعض الأجزاء من الجدران المبنية من الحجر الرملي".
وربما تكون هذه القلعة قد صمدت لأكثر من ثمانية قرون في وجه تقلبات الطقس وهجمات الغزاة، لكن مصيرها الآن أصبح مجهولا.
ويقول غوبا بنبرة أسى، "نعلم أن كل شيء في حياتنا يتغير من نواح عدة، ولكننا نأمل أن يعيش أطفالنا وأحفادنا في هذه القلعة كما عاش فيها أجدادنا".
وقــــــــــــــــــــــد يـهمك أيــضًأ :