الشارقة - صوت الامارات
افتتحت المسرحية الجزائرية "جي بي إس" حفل انطلاق الدورة الثلاثين لمهرجان أيّام الشارقة المسرحيّة، باشتغالات فنيّة ذكيّة ومدروسة، اعتمدت الصمت وسيلةً لنقد الإنسان المعاصر في هشاشته وضعفه وانصياعه وتوهانه، وسط حضور ذهني عالٍ ومساحة واسعة من التلقي النخبوي المميز للمسرحية الفائزة بجائزة صاحب السّمو الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي لأفضل عرض عربي لسنة 2020، في مهرجان المسرح العربي الثاني عشر الذي أقيم في العاصمة الأردنيّة عمان.
واستطاعت فرقة المسرح الوطني الجزائري بإمضاء المخرج محمد شرشال أن تشدّ جمهور «الأيام» على مسرح قصر الثقافة، أمس الأول، بتصويرها عجز إرادة الإنسان وحقيقته الصادمة، واعتمادها خلطة مزجت بين تقنيات السينما والمسرح والإيماءات والحركة، واختزال الكلام كليّةً لصالح خطاب جديد، تناول ثيمة طريفة، تتلخّص حكايتها بأنّ نحّاتاً يهمّ بتحطيم منحوتاته لأنّه غير راضٍ عنها، غير أنّ هذه المنحوتات تقاوم وتدافع عن نفسها، فتستقل عنه أو تتمرد عليه، لتتحكم بمصيرها، فتنتقل من حالة الجماد إلى الحركة لتنطلق في رحلتها نحو الأنسنة التي تتتبع بها أشكال الاندماج الاجتماعي والثقافي، لتكتشف هذه المنحوتات عجز الإنسان المتحكّم به، وقابليته لأن يظلّ على هذه الشاكلة.
وكما فتح عنوان المسرحية شهيّة الجمهور على التأويل، ظهرت مقدرة وعبقرية التمثيل الجماعيّة بحضور السينوغرافيا والموسيقى كعنصرين أساسيين، في عمل صامت، يفارق الاعتياد اللفظي وربما الكثير من الثرثرة المعتادة، باعتبار الصمت وحركات الجسد هما بطلا العمل في إيصال فكرته للمتلقي، وفق خيارات المخرج شرشال بين أفعال المسرح الأربعة: اللفظي والسيكولوجي والفيزيائي والميكانيكي.
وحملت المسرحية، التي استشفّ الجمهور من خلالها أهميّته في التفسير والربط دون اعتباره قاصراً، فكرة إدمان الإنسان الانتظار دون أن يظفر بالخلاص المتمثّل بالقطار الذي يمرّ دون أن يستقلّه أحد، فيضيع الوقت وتشيخ التفاصيل، في عرض كان امتحاناً حقيقيّاً للتعامل الجسدي والاستغناء عن الصوت، في رقصات منضبطة، وشيفرات احتاجت إلى بذل المزيد من الجهد الذهني لتلقي الرسالة.
سينوغرافيّاً، تم الاشتغال على ديكور متحرك ومحطة قطار، كما تفاعل الجمهور مع الطاقة اللونية الهائلة والتشكيلات البصرية المضبوطة في فرجة لطيفة، ومؤثرات صوتيّة منسجمة وموسيقى فاعلة نهضت كظلال للمعنى، فيما كان الحوار محمولاً بالحركات لا غير، في مساءلة وجوديّة وبحث عن طائل في عالم مقيت، ما ألقي بظلاله على المنحوتات التي قررت بعد هذه التجربة احتجاجاً على ضعف الإنسان وفعل «التسيير» الواقع عليه، أن تعود إلى سيرتها الأولى كمنحوتات تتخلى عن كينونتها الإنسانية الجديدة، ولذلك فقد ظهرت في العرض مراحل الولادة والتفتيش عن الملامح، كما برزت سطوة الموت أيضاً كخاتمة، وحقيقة وحيدة في حياة الإنسان.
ومثلما التقطت مناظير الجمهور أسئلة العمل وفلسفته الوجوديّة وولوجه إلى نفسية الإنسان المعذّبة، كان التداول الذهني الناقد لدى الحضور مبنياً على ثقل هذه الأسئلة والتفكير في ظلالها وما تركته على حضورها من إعادة نظر في كثير من الإنسانيّات المعذّبة بمطحنة الوقت والنمطية المفروضة ذاتها الجاثمة كصخرة ثقيلة يظلّ يعاني وطأتها ويشقى بها البشر، اليوم وغداً وبالأمس، ولذلك فقد نجح العرض باستفزازه كثيراً من المسكوت عنه في حياة هذا المخلوق الضعيف والهش والمعقّد أيضاً في تركيبته، ألا وهو الإنسان
قــــــد يهمــــــــــــــــك ايضــــــــــــــــــا:
سلطان بن محمد القاسمي يشهد الجلسة الحوارية "الثقافة والتنمية" في مركز "أكسبو"
الشيخ سلطان بن محمد القاسمي يفتتح "مدينة الشارقة للنشر"