سياحـة في مكتبـة "العمـلاق" والبيـت رقـم 13

أحد العمالقة الكبار (حقيقة لا مجازاً أو مبالغة)، الذين تزيّن صورهم المكتبة العربية، وتحجز إصداراتهم رفوفاً وليس حيزاً متواضعاً.. مفكر ومبدع أثرى الحياة الثقافية بأكثر من 70 كتاباً، وصاحب قلم تستدعى كلماته دوماً في مجال الحثّ على محبة الكتاب..

إنه الراحل عباس محمود العقاد، الذي اشتهر بأنه "دودة قراءة"، قضى عمراً مع الكتب، يطالعها من الجلدة إلى الجلدة، من الصفحة الأولى إلى الأخيرة. قرأ العقاد نحو 60 ألف كتاب، كما روى أحد مريديه، والتهم كل ما وقعت عليه عيناه، في الأدب والدين والتاريخ والفلسفة، وحتى في الحشرات؛ حتى إن مكتبته ضمت أكثر من 100 إصدار عنها كي يستزيد من الإحساس بالحياة من كل جوانبها، معتبراً أن دراسة الحشرات من أهم ما يمكن أن يطلع عليه الإنسان.

وتعلق صاحب "العبقريات" و"سارة" بالقراءة مبكراً، أحب "غذاء العقول" كما يسميه، فجمع مزيجاً من الثقافات: أدب عربي قديم وأشعار ابن الرومي والمتنبي وفي الوقت ذاته الأدب الغربي ونتاج شكسبير وغوته وشيلر.. كان ذلك منذ النشأة الأولى التي فتح العقاد عينيه فيها على مجتمع منفتح في مدينة يزورها أناس من شتى أنحاء العالم، وهي مدينة أسوان في أقصى صعيد مصر، التي كانت وجهة لسائحين من الشرق والغرب.

ويرسم العقاد ملامح مكتبته، ويصطحب القارئ في سياحة بها، وذلك بكتابه "في بيتي"، الذي يتنقل بين الأركان المختلفة، ويعرض ما تضمّه من معارف، وفي الوقت ذاته لا يهمل صورة معلقة لبيتهوفن، أو تمثالين لطائر البومة الذي يرتبط بالتشاؤم، إلا أنه كانت للعقاد وجهة مختلفة في ذلك، إذ سكن بيتاً رقمه 13، واختار تليفوناً يبدأ رقمه بـ13، واعتبر البومة مظلومة لأنها "قد تركت الدنيا والنهار للإنسان ولاذت بالليل والخلاء، وهي أوفى الطيور في عِشرة الأليف منها للأليف.. أليست هي إحدى الأحياء النادرة التي يسكن الزوج منها إلى زوجه مدى الحياة؟ أليست هي التي تغني لنور القمر ولعزلة الليل؟".

واشتملت مكتبة العقاد - كما فصّل بشكل حواري أدبي كتاب "في بيتي" - على "شعر وتاريخ وفن ودين وسير وطبائع حشرات تصاحبها طبائع عظماء وخليط من المطالب لا تعرف لها وحدة ولا يطرد لها نظام، فهل هي مكتبة قارئ واحد أم هي مكتبات شتى أعددتها لمن يشاء؟ قلت: بل هي مكتبة واحدة أعددتها لقارئ واحد، ولا أحسب أن مكتبة القارئ الواحد تتفق على غير هذا النظام.. ولابد للقارئ الواحد من مطلبين مختلفين: أحدهما للصناعة والعمل، والآخر للمتعة والتسلية".

ويروي الكاتب الراحل أنه احتاج يوماً إلى نقل بعض الرفوف من حجرة المكتبة، فاستعان بقريب لبواب المنزل "وكان ريفياً أمياً ولم يكن له علم بالأحرف العربية أو الأجنبية، فإذا رأى كتاباً فكله مما يقرأه المطهرون، فلما اقترب من باب المكتبة خلع نعليه، وتهيب أن يمدّ يده إلى الكتب، لأنه كما قال لم يكن على وضوء!". ويكمل العقاد أنه شرح لذلك الريفي البسيط أن الكتب "كأبناء آدم وحواء فيها الصالح والطالح، وفيها الطيب والخبيث، وأنها لا تحرم في جميع الأحوال على اللمس بغير وضوء، فلم أجرئه على حرمتها ولا أقنعته بلمسها حتى أريته على غلاف بعضها صور التماثيل، وفي صفحات بعضها صور السادة والسيدات فتحلل من حرج وأقدم بعد إحجام".

واحتلت الدواوين ربع مساحة مكتبة العقاد الذي ولد في مثل هذا الشهر عام 1889 ورحل عام 1965، إذ كان يؤثر الشعر في ما سواه: "كنا عاملين عندما كنا قائلين، وأنه لم توجد قط أمة عرفت كيف تعمل إلا عرفت كذلك كيف تقول، فلا تناقض بين القدرة على العمل والقدرة على القول، وما يستطيع إنسان أن يعمل حسناً أو يقول حسناً إلا بوعي صحيح، والوعي الصحيح قسط مشترك بين ملكة العمل وملكة الشعر، ولولا أن الشعراء يحتاجون إلى صناعة التعبير ويفرغون لإتقانها لما منعهم الشعر أن يكونوا أقدر العاملين".

وكان للعقاد رأي "متشدد" في القصة والرواية، وحتى في السينما: "لا أقرأ قصة حيث يسعني أن أقرأ كتاباً أو ديوان شعر، ولست أحسبها من خيرة ثمار العقول.. الرواية تظل بعد هذا في مرتبة دون مرتبة الشعر، ودون مرتبة النقد أو البيان المنثور.. وكلما قلت الأداة وزاد المحصول ارتفعت طبقة الفن والأدب، وكلما زادات الأداة وقل المحصول مال إلى النزول والإسفاف. وما أكثر الأداة وأقل المحصول في القصص والروايات. إن 50 صفحة من القصة لا تعطيك المحصول الذي يعطيكه بيت كهذا البيت: وتلفتت عيني فمنذ بعدت.. عني الطلول تلفت القلب؛ لأن الأداة هنا موجزة سريعة والمحصول مسهب باق، وكذلك لا تصل في القصة إلى مثل هذا المحصول إلا بعد مرحلة طويلة في التمهيد والتشعيب وكأنها الخرنوب الذي قال عنه التركي فيما زعم الرواة: إنه قنطار خشب ودرهم حلاوة!".

وأغضب ذلك الرأي - وربما الهجوم - عشاق الرواية (كان ذلك في نحو عام 1945)، وتصدى أحد مبدعي القصة للرد، وهو نجيب محفوظ الذي كتب مقالاً يفنّد فيه رأي العقاد، ومنه: "الفن أياً كان لونه وأياً كانت أداته تعبير عن الحياة الإنسانية، فهدفه واحد وإن اختلفت كيفية التعبير تبعاً لاختلاف الأداة، وكل فن في ميدانه السيد الذي لا يبارى.. فالفنون جميعاً تتفق في الغاية وتتساوى في السيادة كل بحسب مجاله، وهي في مجموعها تكوّن دنيا الأفراح والمسرّات والحرية، حيث يعيش أبناؤها على وفاق ومحبة وتعاون، لا يكدر صفوهم مكدر إلا أن يتصدى رجل كبير كالعقاد لدنياهم المطمئنة فيرمي بحيرتها الساجية بحجر ثقيل يطيّن رائقها، ويبعث الثورة في أطرافها، فيقول: إن هذا اللون من الفن راق وذاك منحط، هذا عزيز وذاك مبتذل". ورأى نجيب محفوظ أن الرجل الذي لا يقرأ قصة حين يسعه أن يقرأ كتاباً آخر، والذي يلاحظ على مكتبته صغر نصيبها من القصة، ليس أهلاً للحكم عليها.