بغداد – نجلاء الطائي
تشتهر منطقة باب الشيخ في سبعينيات القرن الماضي، بالحياة المليئة بالحركة، والتي تضم منازل وبائعي آيس كريم ، وحمامات للرجال والنساء، وتجمع الألفة والحنين، والحب متبادل بين الجميع، سكان أصليين من العرب والتركمان، نازحين من مدن العراق المختلفة، بأديان وطوائف متباينة. ويشعر جميع السكان بانتمائهم إلى هذه البقعة الصغيرة، التي يوجد فيها مرقد الشيخ عبد القادر الكيلاني، هذا المرقد الذي كان يحيط ببنايته الفقراء من العراقيين والهنود، من المعاقين، والمجانين والعقلاء، وبائعي الطعام، الذي كان يباع بسعر رخيص يتناسب ودخل هؤلاء الفقراء.
وهي محلة من محلات بغداد العريقة، تقع في الجنوب الشرقي من بغداد، وفي القسم الشرقي من نهر دجله، تضرب جذورها في أعرق مشارب التاريخ، جمعت سكانها في بوتقة واحدة على الرغم من تتابع الويلات والآلام، العلاقات بين أبنائها متينة، وتكاثفت المواقف، فيما بينهم في أوقات وأزمان مختلفة، وفرضوا أنفسهم على التاريخ، فحفظتهم الذكريات.
وأنجبت نخبة متميزة من كبار العلماء والمثقفين والأدباء والفنانين والسياسيين والعسكريين، إضافة إلى أنها كانت تضم في أرضها بعض المعالم الأثرية التاريخية، منها "طاك باب الشيخ"، الذي بني قديمًا على شكل نفق تعلوه بناية قديمة، ويبلغ طوله نحو عشرة أمتار وعرضه خمسة أمتار، ويوصل هذا الطاك محلة فضوة عرب في شارع الكيلاني، الذي يربط شارع الكفاح بشارع الشيخ عمر.
وكانت تحكي عن هذا الطاك القصص والحكايات الشعبية الخرافية، والتي على إثرها جعلت البعض من أهالي منطقة باب الشيخ (الشيخلية)، يخشون المرور منه وقت الليل، ظنًا منهم بأن هذا المكان كما تشير إليه تلك القصص والحكايات مسكونًا بالجن والطنطل، كانت تصدر في الظلام الدامس تحت الطاك أصواتا وحركات غريبة، وفي الحقيقة أن مصدر هذه الأصوات والحركات كانت من بعض الفقراء العجزة، الذين لا ماؤى لهم ينامون فيه ليلًا خاصة أيام فصل الشتاء البارد وكذلك قيام بعض السكارى من أهل المنطقة أو من المحلات القريبة، بحركات واصوات تخيف السامعين لها من الناس المارين عبر هذا الطاك.
*طاك باب الشيخ
يعد طاك باب الشيخ مكانًا أثريًا وتاريخيًا مهمًا، يدخل ضمن معالم بغداد القديمة، يقدر عمره أكثر من خمسمائة سنة وأن هذا المكان الأثري له قيمة تاريخية علمية تحكي مرحلة من مراحل تاريخ بغداد القديمة. وتطل قبة ضريح الزاهد الصوفي الجليل عبدالقادر الكيلاني البيضاء، على محلة باب الأزج ببهائها ونورها الوقاد، لتضفي على المحلة القديمة حلة مبهجة تكسبها اسم صاحب المقام.
*تاريخ المحلة
يعود تاريخ المحلة إلى زمن ما قبل العهد السلجوقي (395هـ- 1133م)، والتي تحول اسمها مع وجود الحضرة القادرية من اسمها القديم الذي اشتهرت به تاريخيًا بـ"باب الازج"، وتعتبر نموذجًا صادقًا للحياة البغدادية بكل أبعادها الحضارية، من معمار وممارسات اجتماعية وفنون وطقوس دينية عبر العصور. وكان مرقد الشيخ عبد القادر الكيلاني وما زال يؤثر على طريقة حياة أهالي المحلة وتلعب الطقوس الدينية والممارسات التي يمارسها زواره دورًا كبيرًا في تفرد محلة باب الشيخ عن بقية المحلات البغدادية المجاورة، على الرغم من تلاصق وتلاحم الازقة والمحلات. فقد كان المكان يضج بالزوار والحجاج والشيوخ الدراويش والمتصوفين طوال أيام السنة، ولكن حلول شهر رمضان في محلة باب الشيخ لها طعم ونكهة خاصة لا يعرفها أهالي بغداد كما يعرفها ويعيشها (الشيخليون) عبر العصور.
*بنائها البغدادي القديم
أن محلة باب الشيخ وحدة حضارية بغدادية متكاملة يلاحظ فيها التطور المعماري، للبناء البغدادي الجميل الذي امتازت به مدينة بغداد منذ عصورها القديمة، وكانت مهنة البناء بكل تفاصيلها المعقدة من المهن، التي اشتهرت محلة باب الشيخ كذلك بصناعة اليزر، قبل شيوع العباءة لدى النساء المسلمات والطوائف الأخرى كالنصارى واليهود، وكانت تتميز بالوانها الزاهية وتطرز الفاخرة منها بالخيوط المذهبة.
واشتهروا كذلك بالحياكة وبإتقانهم لقراءة المقام العراقي ومعرفة فنونه، وذلك لجلوسهم الساعات الطويلة خلف (الجومه) آلة الحياكة لا يجدون ما يؤنسهم، سوى قراءتهم لهذا الفن العريق ولكن اتقان المقام في باب الشيخ يرجع إلى وجود الضريح الشريف في تربة المحلة، والذي كانت تقام فيه الأذكار وإقامة الآذان وتجويد القرآن، والتمجيد والتسبيح والابتهالات كل ذلك جعل رجال المحلة، يتقنون أصول وفروع المقام العراقي بكل صنوفه، واشتهر منهم طبقة كبيرة من القراء أمثال نجم الشيخلي ذو الحنجرة الذهبية، والحجي عباس كبير الصوفيين والمصارع من زورخانات بغداد القديمة.
*أوقات زيارة المقامات
كان أهالي بغداد يزورون ضريح الشيخ ومقامه الكريم يوم الثلاثاء من كل أسبوع، ضمن ما اعتادوا عليه في (الكسلات والزيارات)، التي اعتاد البغادلة على القيام بها ويعتنون بالاستعداد لها بتحضير الطعام والفواكه، أثناء شهر رمضان لتناول الفطور في المكان، الذي يقصدوه طلبا للبركة والترفيه، ومن هذه الزيارات والكسلات زيارة السبت المخصصة، لزيارة الأمام موسى بن جعفر وكسلة الأحد لزيارة مريم بنت عمران في كرادة مريم، والاثنين لزيارة مرقدي (الشيخ عمر السهروردي ومرقد سيد ابراهيم)، اما الثلاثاء فجعلوه لزيارة الشيخ عبد القادر الكيلاني والأربعاء لزيارة مرقد ابو رابعة في الأعظمية محلة النصة، اذ يعتقد أن صاحب القبر هو الخليفة الشهيد المستعصم بالله الذي غيب قبره المغول.
ويملك أهالي هذه المحلة اعتزازًا فريدًا بشخصيتهم وجذرهم الاجتماعي المتشرب في ثنايا حياتهم اليومية المعاشة، فاستطاعوا في عز الأزمات التي آلت إليها بغداد في القرن العشرين المحافظة على مركزهم السياسي والديني والاجتماعي، وعلى الرغم من كل المؤثرات الخارجية التي أحاطت بهم، لم ينفكوا يؤمنون يوما بعد يوم بحكمة إسلافهم وأجدادهم الحكماء التي تقول "من ضاع جذره انتفى أصله".
*تسميات المدينة
عرفت محلة باب الشيخ بادئ ذي بدء بمحلة باب الأزج، التي تأسست أول ما تأسست بعيد تولي الخليفة المنصور الخلافة، وترسيم بغداد كعاصمة للعراق، التي سماها بمدينة السلام، بعد أن كانت الكوفة هي العاصمة الحضارية للعراق عقب تولي بين أمية الخلافة، وأثناء نشوء بغداد كعاصمة للدولة العباسية، قدم من أصقاع أخرى، العديد من العلماء والمفكرين والفلاسفة والمتكلمين، وكان فيما بينهم الشيخ القاضي أبو سعيد المخرمي، الحنبلي التوجه، الذي أسس أول مدرسة للحنابلة في بغداد لتدريس أصول الفقه والشريعة واللغة ثم عرفت، فيما بعد بمحلة باب الشيخ . فأنضم إليها الشيخ العارف العلامة عبدا لقادر الكيلاني رحمه الله، الذي آلت إليه إدارة هذه المحلة قبيل وفاة الشيخ القادر أبو سعيد المخرمي، الذي كتب بوصيته له. وأبان الحكم العثماني وعقب احتلال مراد الرابع لبغداد، قرر هذا بناء القبة وتعمير مسجد الشيخ الكبير عبدا لقادر الكيلاني، بعد إن تهدم بفعل الغزوات والفيضانات المدمرة.