الدار البيضاء ـ بشرى بلال
يُلٌقب الحرفيون بسفراء الصناعة التقليدية أو جنود الخفاء، كما كان يسميهم الملك الراحل الحسن الثاني. أغلبهم يئن تحت وطأة الفقر بسبب ضيق اليد رغم تضحياتهم التي أفنوا فيها زهرة شبابهم لحماية الحرف التقليدية من الانقراض، وبينهم من أصيب بالإفلاس بعد أن بلغ من الكبر عتيا ليجد نفسه مشردا ينتظر صدقة جارية لعلها تنأى به عن بؤس المآل أو تخفف من حدة مأساته اليومية، وبينهم من اضطر إلى إغلاق محله كرها بسبب المنافسة الشرسة التي يتعرض لها من طرف الباعة المتجولين الذين لم يفسحوا أمام هذه الفئة المجال لتوفير لقمة العيش.
الإفلاس.. الشبح الذي يطارد الحرفيين التقليديين:
في حي التقدم في العاصمة الإدارية الرباط، لمحنا سوقا تجاريا خاصا بالألبسة التقليدية يسمى بقيسارية "الاستقلال"، حيث يتواجد عددًا من المحلات التجارية تُعرض فيها الملابس النسائية التقليدية للبيع. حين تحدثنا إلى أصحاب تلك المحلات، وجدنا أن لا أحد منهم راضيا عن وضعه بسبب الأزمة التي حلت بهم في السنوات الأخيرة.
ومحلات تجارية هنا وهناك، حيث لا شيء يوحي برواج تجاري سوى تلك الجلابيب التقليدية المعلقة، معلنة عن إفلاسها بسبب الباعة المتجولين، الذين اختاروا الأرصفة المحاذية للسوق مكانا مناسبا لافتراش سلعهم من أجل بيعها، وهي منافسة أرخت بضلالها على مصير عدد من أصحاب تلك المحلات، بحيث اضطر أغلبهم إلى إغلاق أبوابها بعد إصابتهم بحمى الإفلاس، بينما هناك من غير وجهته نحو مجال آخر بعيدا عن تخصصه، بالمقابل هناك من اختار الصمود ولو من ماله الخاص غيرة على هذا المجال .
وكشف عبد السلام العثماني، خياط تقليدي من مدينة الرباط، إلى "المغرب اليوم"، عن سبب الأزمة التي يعانيها هذا القطاع، قائلا "للأسف إقبال المغاربة على الصناعة التقليدية المغربية تراجع بنسبة 60 في المائة، والسبب أن الباعة المتجولين يسيطرون على المجال من خلال استغلالهم الملك العمومي، مروجين جلاليب تقليدية جاهزة الصنع وبأثمنة بخسة، وهو الأمر الذي يشجع الزبناء على اقتناءها بدلا من شراء الملابس التقليدية ذات صنع اليد من المحلات. وأمام هذه المنافسة غير الشريفة، يجد الصانع التقليدي نفسه أمام زمرة من التحديات والمعيقات، والتي تحول دون توفيره المال لدفع سومة الكراء الشهري للمحل، بل وأحيانا ما ينفق من جيبه لتسديد فواتير الماء والكهرباء والضريبة.. إلخ".
السرقة.. زادت الطين بلة:
طالب عدد من التجار الحرفيين السلطات المحلية، بتوفير الأمن لحمايتهم من ظاهرة السطو التي تتكرر باستمرار على محلاتهم التجارية، حيث يتعرض التجار كما يتعرض زبنائهم إلى النشل من قبل اللصوص، وهو ما زاد الطين بلة أمام تراجع الإقبال على اقتناء منتجاتهم الحرفية. وقال أحد التجار، إن الحرفيين يطالبون بالحماية الأمنية، حفاظا على سلامة زبنائهم لدرجة أنهم ولوا وجهتهم صوب مراكز تجارية أخرى، وهو ما أرخى بضلاله على تجارتهم التي خفُت رواجها بسبب اللصوص.
وأضاف المصدر قائلا " حي التقدم لا يتوفر على مخفر شرطة لحماية المارة من السطو والاعتداء المتكرر، لدرجة أن الأمر انعكس سلبا على رواجنا، فنحن لسنا محميين، كما نعيش فوضى حقيقية وعلى المسؤولين التدخل العاجل لإنقاذ سفينتنا من الغرق".
الوزارة لا تعترف بنا:
أمام عدم توفر هذه الفئة على التغطية الصحية والمعاش الاجتماعي، يصبح سن التقاعد بالنسبة إليهم كابوسا حقيقيا في غياب أبسط الحقوق التي ستؤمن مستقبلهم. وقال أحد التجار الحرفيين، "إن الوزارة لا تعترف بهم مادامت لم تكلف نفسها عناء زيارتنا لمعاينة الظروف القاسية المحيطة بنا، فوضعنا غير مستقر، والأكثر من هذا أننا نعمل بدون توقف، كما أن رواجنا التجاري هو مناسباتي ما يجعل مداخيلنا من الصناعة التقليدية محتشما لا يتعدى 200 درهم في أقل من أسبوع".
وزاد المتحدث قائلا "إن الصانع التقليدي مغلوب على أمره، فلا سند قانوني يحميه من ظلم بعض الزبناء، حين يصل بهم الأمر إلى حد مقاضاته لخلاف بسيط، ولا تغطية صحية أو تقاعد مريح يؤمن مستقبلهم، ولا حتى دعم أو تشجيع يضمن على الأقل مواصلته واستمراريته حفاظا على هذه الحرفة من الانقراض". ودعا المتحدث الوزارة الوصية إلى إيجاد صيغة مثلي كي تحافظ بها على كرامة الحرفيين البسطاء الذين يعانون أمام صمتها المطبق وعدم مبادرتها بحل يخفف عنهم وطأة الفقر وضيق اليد على حد قوله.
وأما "محمد. لما"، فكان خياطا تقليديا قبل أن يجد نفسه مضطرا لفتح تعاونية خاصة بصناعة الألبسة الرياضية الجاهزة، بعد اتفاق عقده مع إحدى أندية كرة القدم، وهي شراكة مكنته من تأمين حياته بعدما أصبح يتمتع بعقد عمل وتغطية صحية، لم يكن يتوفر عليها حين كان حرفيا متخصصا في الخياطة التقليدية. وقال محمد الذي يشغل في نفس الوقت منصب الكاتب الجهوي لنقابة الصناع التقليديين في الرباط، "إن الأخيرة تم تأسيسها منذ سنة تقريبا تحت لواء نقابة الكونفدرالية العامة للعمل، دفاعا عن حقوق الصناع الحرفيون الذين لا سند لهم، وهي فئة لا تطالب بالصدقة وإنما بالاستفادة من الحقوق المشروعة كمواطنين وكسفراء حقيقيين، يمثلون اللباس التقليدي المغربي ويسهرون للمحافظة عليه رغم المنافسة الشرسة التي يتعرضون لها من قبل الألبسة الجاهزة القادمة من الخارج".
وأضاف الكاتب الجهوي أن الإكراهات المادية والمعنوية التي تخيم على هذا القطاع، دفعته إلى تغيير وجهته نحو تخصص مغاير، رغم أن الأمر يحز في نفسه كلما استحضر معاناة باقي الحرفيين بسبب الإهمال والإقصاء المتعمد على حد تعبيره.
المنتخبون.. وعودهم كاذبة:
يبلغ عدد الحرفيين في غرفة الصناعة التقليدية في جهة الرباط سلا زمور زعير، حوالي 7 آلاف شخصا، بينهم استثناءات تستفيد من امتيازات بطائق انخراطهم، أما الباقون فلا يستفيدون من شيء يُذكر. كان هذا كلام أحد الحرفيين الذي كشف عن الإهمال الذي يواجهونه من قبل ممثلي الغرف المهنية في عدد من مدن المملكة، متسائلا عن دور رؤساء تلك الغرف في غياب تدخلهم لحل مشاكل الحرفيين العالقة على حد تعبيره.
وأوضح المتحدث أن المنتخبين، أخلفوا وعودهم بتسوية الوضعية القانونية والاجتماعية للشغيلة، وهي وعود وصفها بالكاذبة حين تحقق مرادهم وبلغوا مناصبهم التي كانوا يلهثون وراءها خلال الحملات الانتخابية الأخيرة.
صناع المنتجات النباتية مهددون بالانقراض:
نور الدين حقوق، صانع تقليدي، نقابي ونائب ثاني للمكتب الجهوي للصناع التقليديين" قال إن 90 في المائة من صناع هذا المجال معظمهم ينحدرون من جماعة سيدي عيسى ابن سليمان. وقال حقوق إن الجماعة تعاني التهميش الكبير والاقصاء من قبل الوزارة الوصية، متمنيا أن تبادر الأخيرة بالتفاتة ولو بسيطة حفاظا على هاته الحرفة التقليدية من الانقراض.
وتحدث نور الدين حقوق بإسهاب عن هذا الموضوع قائلا "كثيرة هي الشعارات المرفوعة في هذا المجال، ولكن هي قليلة النتائج المحققة لفائدة الصناع التقليديين على المستوى المحلي، مما يؤثر سلبا على إمكانيات مواصلتهم العمل في هذا المجال. فأمام التنافسية المتوحشة وغير الشريفة التي يعرفها القطاع من طرف رجال الأعمال، بلغ السيل الزبى وحان الوقت للالتفات حول معاناة هذه الشريحة المهمشة، والمغمى عليها، لذا اصبح من الضروري ايجاد حلول عاجلة وواقعية للخروج من هذه الورطة التي وُضع فيها الصناع التقليديون، وذلك بإنشاء المزيد من عدد الاحياء الصناعية التقليدية، لجمع شمل عدد كبير من الصناع الذين لا يتوفرون على ورشات خاصة بهم، علما ان أراضي الدولة موجودة وتُعطى للشركات العملاقة".
وأضاف المتحدث قائلا: "تخيل معي أن صناعة المنتجات النباتية تُستعمل فيها موادا مستوردة من آسيا، قطيب "الخيزران"، يحتكره شخص وحيد في المغرب، والذي يبيعه بثمن خيالي للصناع التقليديين يصل إلى 200 درهم للكيلو، علما أن ثمنه الحقيقي لا يتعدى 25 درهم للكيلو، محتكرا السوق بسبب الإمكانيات التي يتمتع بها. مطالبا الوزارة الوصية بتوفر للصناع التقليديين البسطاء المواد الأولية للاشتغال، كما طالب رئيس الحكومة بإعطاء تعليمات لتشجيع باقي القطاعات الوزارية الأخرى على اقتناء هذا المنتوج التقليدي لما له من نفع على أسر الحرفيين. .
فمثلا سلة المهملات المصنوعة من القصب والدوم، فكل مكتب توضع فيه سلة مهملات من القصب والدوم، تشغل آلاف النساء والصناع التقليديين ليلا ونهارا. فهذه هي التنمية الحقيقية التي نطالب بها.
وأمام الحيف والتهميش الذي تعانيه هذه الفئة، تساءل مصطفى الشطاطبي رئيس النقابة الوطنية للصناعة التقليدية، عن السبب وراء صمت وزارة الصناعة المسؤولة على هذا القطاع وعدم تدخلها لحل المشاكل العالقة للشغيلة، من خلال فرضها نظاما قانونيا يحميهم من الدخلاء الذين اغتنوا بحسبه من هذا المجال على حساب الحرفيين البسطاء. وقال الشطاطي مستغربا، "لماذا حقيبة وزارية إذا كانت أغلب الحرف أضحت مهددة بالانقراض، كما أن جيل الخلف لم يعد موجودا بسبب تهرب اليد العاملة من هذا المجال لعدم توفيره التأمين الصحي والمستقبلي لحرفييه".
وتأسف المتحدث من عدم هيكلة هذا القطاع، وغياب المبادرة لتوفير المواد الأولية للصناع التقليديين، علما أن "آلة الخياطة" قد يصل مبلغها 60 ألف درهم، وهو مبلغ يتعذر على الصانع أن يوفره أمام القرض الهزيل الذي تمنحه إياه لجنة مسؤولة داخل المبادرة الوطنية للتنمية البشرية، والذي لا يتعدى بدوره 20 ألف درهم.
وقال الشطاطي، إن النقابة أُسست لهذا الغرض وهو الدفاع عن الحقوق المهضومة للصناع الحرفيين، ولو أنها أزعجت رجال الأعمال الذين يسيطرون بحسبه على المعارض الوطنية كما على غرف الصناعة التقليدية، علما أن الأخيرة من المفروض أن تلعب دور الوسيط بين الحرفيين والوزارة الوصية لحل مشاكلهم العالقة.