زها حديد من الرسومات إلى ظاهرة عالمية

يشعر زوار معرض سيربينتين ساكلر "Serpentine Sackler" في لندن، بأنهم يشاهدون  كنوزًا معمارية وليس مجرد لوحات تعرض فقط في هذا المكان، والذي تم افتتاحه بعد 9 أشهر من وفاة الفنانة المعمارية العراقية زها حديد عن عمر يناهز 65 عامًا إثر أزمة قلبية في ميامي، حيث تم جمع  لوحاتها المذهلة كافة وتقديمها في المعرض، الكائن في حدائق كنسينغتون في لندن التي حولتها حديد بنفسها إلى معرض ساكلر عام 2013، وقدمت في المعرض كتب الرسم الخاصة بها للمرة الأولى إلى جانب لوحات بلغ ارتفاعها 3 أمتار.


ويتحدث الفنان ماديلون فريسندروب الذي علّم زها حديد في الورش الفنية في جمعية المعماريين في السبعينات قائلًا: "كان لدى زها حتى عندما كانت طالبة نوعًا من الهالة الأسطورية حولها"، وقدم ماديلون لها ألوان نابضة بالحياة على العكس الألوان الرمادية والبنية التي كانت تفضلها، وتابع ماديلون: " كانت مخلوق لا يصدق وترتدي دائمًا طبقات من الأوشحة وكعب البرسبيكس، وكان لديها عادة غريبة خاصة بحرق حواف رسوماتها ما جعلها تبدو كما لو كانت كنوز مستقبلية محفورة في الأرض مع كل هذه الأشكال والمنحنيات، كنت أحب صورها كثيرًا لكني لم أحاول أن أفهم ما تعنيه".
ويتيح المعرض نظرة ثاقبة على السنوات الإبداعية الأولى للمهندسة المعمارية، ويكشف عن تبنيها لبعض الخطوط الغريبة، ومجموعة من النقاط والعلامات والدوائر في مذكراتها والتي ربما تتطور إلى مقترح لمساحة مكانية ما، وتتداخل خطوط حديد عند تجسيدها للشكل الذي يمكن أن يكون عليه أحد المباني في أحد المواقع قبل انتقالها إلى رسومات العمل واللوحات بحجم الحائط.


ويضيف أمين المعرض "هانز أولريش أوبريست" والذي عمل مع حديد لأكثر من 20 عامًا لكنه لم ير رسوماتها إلا في محاضرتها في ريبا "RIBA" عند الحصول على الميدالية الذهبية أوائل هذا العام: "عندما فتحنا صندوق ملاحظاتها بدأ الأمر وكأننا نرى بطارية هائلة الطاقة، وكان بمثابة اكتشافًا لا يصدق، لقد واجهنا مخزون من أفكارها وراء أعمالها والتي توقعت العصر الرقمي قبل الكمبيوتر بفترة طويلة".
وأصبحت المباني المعمارية التي قدمتها حديد تعرف بأشكال الحاسوب فضلًا عن الزوايا المتقاطعة والأشكال الهندسية الحادة كما في المباني الروسية، وعند تصاعد تيار ما بعد الحداثة أوضحت حديد أن الأعمال السوفيتية الرائدة قدمت منجمًا مذهلًا للابتكارات المركبة والمعقدة المليئة بالديناميكية، وقال عنها معلمها السابق ريم كولهاس في حفلة تأبينها في كاتدرائية سانت بول في أكتوبر/ تشرين الأول: " أخذت زها مواد بنائية من 50 عامًا ومن خلال كيمياء شخصية نجحت في تحويلها إلى لغة معمارية للقرن الحادي والعشرين على نحو سلس ومعاصر"، وتميزت لوحات حديد بدقة وحساسية المنمنمات الفارسية نظرًا لاستخدامها فرض صغيرة الحجم للغاية فضلا عن فريق من مساعديها على مدى أسابيع وأشهر.
وأوضح شمون بسار الذي التحق بإستوديو حديد في منتصف التسعينات كطالب جامعي شاب أن الإستوديو كان يحظى بجو ورشة لفنان من عصر النهضة، مشيرًا إلى أن اللوحات كانت نتاج جهد جماعي حتى أن العمل كان يستمر في بعض الأحيان إلى وقت متأخر من الليل، وتابع بسار: "كانت زها حديد تستقر في منتصف الليل، وكانت تتصل بأحد من مساعديها وتستمل في رسوماتها مع عدد قليل من الكلمات وكنا نذهب بعيدًا ونصور ونطور كل فكرة إلى رسم، وفي اليوم التالي كانت تأتي لتخبرنا أي الصور التي أعجبتها والتي لم تعجبها".


وكانت حديد توجه وترشد مجموعة مساعديها لكنها كانت تحضر لرسم الأجزاء الرئيسية بنفسها، وكانت اللوحات نتاج جهد جماعي وسلسلة من عمليات النقل والشف والرسم قبل نقل الرسم إلى ورق الكربون أو القماش، وأضاف بسار: "يقول الناس أنه يمكنك معرفة أي الأجزاء في لوحات رامبرانت التي رسمها بنفسه، وبالمثل يمكنك رؤية يد حديد، لقد كانت متميزة في التنقل بين الألوان على نحو سلس للغاية"، حيث كانت الأرضيات تتحول إلي جدران في لوحات حديد وتتحول المساحات العامة إلى سماء نيلية، وظهرت في لوحات حديد بعض الكتابات الهيروغليفية والرموز البصرية.
وبين ماديلون: "ابتركت حديد العديد من الكلمات لأنها لم تكن تذكر الأسماء الفعلية لأي شيء أو شخص، كما أنها كانت تطلق على الموظفين الجدد في المكتب (بوبسي) لأنها لم تكن تذكر أسمائهم قبل أن تبتكر لهم أسماء مستعارة، وشملت الأسماء المستعارة لمساعديها (ليكي- يوان- بوتاتو- رومان- كلينتون)".
وأشار كتاب الذكريات الذي نشره المعرض إلى بعض مواقف حديد مع عملائها، حيث هددت أحدهم بعدم حضور افتتاح المبنى عندما رأت قائمة الصحافيين المدعوين لتغطية الافتتاح، ويروي برين كلارك أحد المقربين إلى حديد عما صادف مجموعة من العملاء اليابانيين الذين كانوا ينتظرون ظهور حديد في شقتها محاولين الجلوس على أحدث الأرائك في منزلها، وبينما هم يناضلون للتوازن بين مصاعد ومنحنيات الأرائك ظهرت حديد وتتبعها سيدة تحمل مقعد تقليدي تماما لها لتجلس عليه.
ويكشف المعرض عن مشروع تخرج حديد عام 1977 والذي تمثل في مقترح لهيكل فوق نهر التايمز، ويوضح المعرض كيف أصبحت تأثيراتها الهندسية المعمارية أكثر جرأة بمرور الوقت، وهناك أيضًا مخططًا لمتحف في القرن التاسع عشر عام 1978 والذي يحمل شيء من الطريقة التكعيبية الفنية التي يفضلها كولهاس، وتبينت أشكال الزوايا في الفضاء لاحقًا بعد عامين في مقترح لها لبناء مقر لرئيس الوزراء الأيرلندي.
وأوضح مقترح حديد الفائز في منافسة عام 1983 لنادي ليسير "Leisure Club" في هونغ كونغ عن مبنى ينفجر في شكل عاصفة ثلجية، وأوضح نيغل كوتس زميلها المعاصر في الجمعية المعمارية " بدت هياكل حديد المبكرة أثقل كثيرا عما كانت تريد"، ونجحت حديد في إكمال 56 مشروعًا في 45 مدينة حول العالم طيلة حياتها بداية من تصميم مقرات "BMW" في ليبزينغ إلى مركز حيدر علييف "Heydar Aliyev" في أذربيجان.


ويفتتح معرض أعمال "حديد" هذا الأسبوع في متحف العلوم والذي يضم نحو 30 مشروعًا لها لم يكتمل بعد، إلا أنه بعد وفاقتها تراجع إقبال العديد من العملاء على المكتب وفُقد العديد من الموظفين، وتخوض شركة زها حديد المكونة من 400 موظفًا طريقًا وعرًا، في ظل دعوة المدير الممارس "باتريك شوماخر" الذي ظهر على المنصة في برلين الشهر الماضي إلى إلغاء السكن الاجتماعي وخصخصة المدن بالجملة.
 وردًا على ذلك قال أحد الحضور وصديق لحديد "كنت غاضبا للغاية من كلماته، لو كانت زها هنا لم تكن لتوافق على هذا الكلام"، فيما أصدر مجلس أمناء مؤسسة زها حديد بيان للتنديد بهذه الدعوة، وجاء في البيان: "من خلال معرفتنا الجيدة بالسيدة زها حديد نعتقد أنها كانت ستعارض وجهة النظر تلك بشدة وستبتعد بنفسها عنها"، وتم الإعلان سريعًا أن رأي شوماخر لا يعكس ماضي زها حديد وأنه لن يمثل مستقبل المؤسسة.
وانضم شوماخر إلى مؤسسة حديد في 1998 وكان له دور كبير في إدخال تقنيات التصميم بمساعدة الكمبيوتر إلى المكتب ما أدى إلى توسيع نطاق الأعمال التجارية للمؤسسة التي أصبحت إمبراطورية عالمية، فيما شهدت الأعين الناقدة له بتقنيات النمذجة التي دعمت من قوة العمل، إلا أن أحد أصدقاء حديد أعرب عن استيائه من أعمال شوماخر موضحًا: "بعض الأعمال التي يصدرها المكتب بعيدة تمامًا عما قدمته زها والتي كانت سترفض هذه الأشياء بكل صراحة، ولا أعتقد أنها كانت ستحب الأبراج ذات الأشكال المحرجة التي يتم تقديمها".
ويمر العمل في المؤسسة حاليًا بنفس التحدي الذي تمر به دور الأزياء الكبرى مثل الكسندر ماكوين أو إيف سان لوران، للحفاظ على المنتج بطريقة مبتكرة مع الالتزام بهويته، ويكمن الخطر في كون زها حديد بمثابة علامة تجارية يعتمد عليها وإذا كان لديهم الحكمة فيجب عليهم أن يفكروا مليًا في إرث المؤسسة.