القاهرة _ صوت الإمارات
من السطر الأول تضع رواية "عطارد" قارئها في مشهد الدم، سواء بذبح أضحية العيد، أو بذبح أب لزوجته وأبنائه وأبيه، في كابوس ينفتح على دائرة أكثر اتساعًا تصبح فيها الحياة مرادفًا لأشكال الجنون من قتل وانتحار وتعذيب وحشي يبلغ حد الموت.
وفي هذا الكابوس لا يمكن حصر عدد الجثث المقتولة والمشنوقة و"المخوزقة" في الشوارع، إذ يبدو القتلة مدفوعين إلى نهاية تراجيدية حتمية، بحجة أن قتل الناس، بمن فيهم الأبناء، يمنحهم مصيرًا أفضل بعد أن صار الجحيم واقعًا والأمل بعيدًا.
"عطارد" من تأليف الكاتب المصري محمد ربيع، واختيرت ضمن القائمة الطويلة للجائزة العالمية للرواية العربية "البوكر" 2016 ، والتي تضم حاليًا 15 رواية، وهي إحدى ثلاث روايات مصرية تتنافس على الجائزة.
وتدور الأحداث عام 2025، بعد تعرض مصر لاحتلال يستدعي نشاط خلايا للمقاومة، في مقدمتها بقايا الشرطة التي انسحبت في "جمعة الغضب" يوم 28 كانون الثاني/يناير 2011، وهو يوم حاسم في الاحتجاجات الحاشدة التي أنهت حكم حسني مبارك.
ولكن أفراد الشرطة ممن يقاومون الاحتلال الغامض ــ الذي وقع على أيدي القوات المسلحة لجمهورية فرسان مالطا.. ما يقرب من نصف مليون فارس مالطي، في مارس 2023 ــ لا يكفون عن السخرية مما جرى عام 2011، ويرونه "علامة سوداء في ذاكرة" وزارة الداخلية.
وبطل الرواية هو ضابط الشرطة العقيد أحمد عطارد، قائد "مجموعة البرج"، وهي خلية لمقاومة الاحتلال تتخذ من برج القاهرة مركزًا لرصد أهدافها، تمهيدًا لقنصهم واغتيالهم بعد مراقبتهم في الجانب المحتل في العاصمة شرقي نهر النيل. أما جزيرة الزمالك، فخلت من السكان، في حين ظلت القاهرة الغربية وتمثلها مدينة الجيزة غربي النيل "محررة وتحت سيطرة المصريين تمامًا" رغم تعرض بعض مبانيها للهدم بسبب القصف.
وتصور الرواية تعرض معالم القاهرة في بداية الاحتلال عام 2023 للقصف والتدمير والانهيار التام، وتشمل مبنى جامعة الدول العربية والبنوك والفنادق ودار الأوبرا والوزارات. وعند قطع الاتصالات والبث التلفزيوني عادت الحياة إلى أوائل القرن الـ20 فجأة، ولا يبقى إلا الراديو المحلي. وتعلن إذاعة بي.بي.سي سيطرة جيش "فرسان مالطا" على مصر، وإلغاء الدستور المصري والعمل بدستور جمهورية فرسان مالطا، وتعيين بول ــ بيير جينفيف حاكمًا عسكريًا على مصر.
أما تمثال إبراهيم باشا بوسط القاهرة فأصابه التشوه، بعد سرقة رأسه في بداية الاحتلال، ثم نشر ذراعه وأجزاء من الحصان الذي يمتطيه، وفي وقت لاحق لن يتبقى منه إلا ثلاثة قوائم.
وبالتوازي مع وقائع عام 2025 تدور فصول من الرواية عام 2011، حيث ينشغل إنسال عن زوجته ليلى بالطواف مع الطفلة زهرة على المستشفيات وثلاجات الموتى، للبحث في السجلات عن جثمان أبيها المقتول في الاحتجاجات.
وتضع ليلى جنينًا ميتًا، فتغادر البيت قبل عودة إنسال، تاركة وراءها أسئلة معلقة.. هل مات، أو أنه لم يعش من الأصل؟ هل سيقوم إنسال بإصدار شهادة وفاة أو شهادة ميلاد؟ ربما في إشارة إلى ما ترتب على احتجاجات 2011 التي كان كثير من المصريين يعلقون عليها آمالًا كبيرة.
ويقرر إنسال أن يتبنى زهرة التي تتعرض أيضًا لمرض غريب أصاب وجهها بتشوهات لا يجد لها الأطباء تفسيرًا.
ولا يبدو احتلال مصر هو المشكلة.. فبعد أن كانت المقاومة تتصيد المتعاونين مع المحتل وموظفي الحكومة الكبار، رحل الاحتلال فجأة وتدهورت الأوضاع من سيئ إلى أسوأ، وتخلى الناس عن الأمل وعادوا "للانتحار قفزًا من فوق الأسطح ورجم بعضهم بعضًا في الشوارع حتى الموت"، وهو ما يعتبره بطل الرواية جحيمًا وعذابًا دون احتلال.
ويسجل عطارد، بطل الرواية، ميل كثير من رجال الشرطة للانتحار، من شدة الضغط النفسي، أما هو فصار قتله للناس عادة، ويرى ذلك واجبًا عليه، لأنه في الجحيم: مهمتي الأولى إخراج الناس من الجحيم بقتلهم. حدث ذلك عبر ثلاثة عصور، حين كان ضابطًا في الشرطة قبل احتلال البلاد، وأثناء انخراطه في مقاومة الاحتلال، وبعد جلاء الاحتلال أيضًا، لأن "الجحيم خالد.. وسينتهي هذا الجحيم ليبدأ جحيم آخر".صدرت "عطارد" عن دار التنوير للطباعة والنشر في القاهرة وبيروت، وتقع في 304 صفحات متوسطة القطع، وهي العمل الثالث لربيع، بعد روايتيه "كوكب عنبر 2010" و"عام التنين" 2012.
وقال ربيع ، (38 عامًا)، إن جانبًا من "هذا الجحيم قائم بالفعل.. حين يتعايش الناس مع الجنون، ويألفون الدم، يصبح غيابه هو الاستثناء".