التشكيلي الإماراتي حسن شريف

"كان والدي "كيكيًا" يصنع الكيك، وكنت أرقبه وهو يرسم بالعجين، ويعد القوالب التي تتنوع في الأشكال والأحجام، وكنت شغوفاً في مراقبته وهو يفرد العجين على الطاولة، وأنا أقف على عتبة المتجر، وأقشط بقطعة معدنية آثار الأيادي التي علقت على الباب، لأرسم أولى وجوهي، وكائناتي التي مازالت عالقة في رأسي منذ ذاك الباب الحاني حتى اليوم"

هكذا يروي التشكيلي الإماراتي حسن شريف مشاهد حياته الأولى في زيارة لبيته في دبي، وكأنه بذلك يقرأ رواية شيقة عن فتى اختار أن يحوّل العادي إلى جمالي، وينتج من علاقته مع الأشياء أعمالاً فنية لتصبح حمالات دلالات شاسعة، فيقول كل ذلك ويضع قلم الحبر الجاف الذي ينقله بين يديه ويمرره على مكتبه وكأنه يرسم في الهواء، يضعه على المكتب ويحدق طويلاً في القطع المعدنية المعلقة على الجدار، ويؤكد "لا أدري إن كان علينا أن نظل محتفظين بكل تلك السيرة الأولى حتى اليوم، لكني أنا شخصيا أكاد أعيشها من جديد كلما استعدتها، فأتذكر أنه كان لنا بيت في جزيرة لنجة، وأمي كانت تطرز الأثواب وتصنع الشيلات حيث كانت تنسج فيها شرائح الفضة الصغيرة، وحين قدمنا من تلك الجزيرة جاءت بي أمي إلى المعلم في مدرسة الشعب في دبي، وقالت أريدك أن تعلم ابني اللغة العربية" .

منذ ذلك العمر صارت علاقتي مع كل شيء تأخذ منحى آخر، فصرت أشبه بمن يتعرف إلى الحياة من جديد ويراها بعين مغايره، فأتذكر أن المعلمين في المدرسة تنبهوا مبكراً لما كنت أرسمه، فجاء إلي معلم التاريخ وقال لي أريدك أن ترسم الشخصيات والمعالم الأثرية التي كانت في الكتاب، فرسمت كتاب التاريخ كاملاً على أثرها، وهذا ما حدث مع معلم العلوم، حيث كان يجعلني أرسم أعضاء جسم الإنسان والحيوانات على اللوح ليشرحها للطلاب، وكنت أشعر بحالة غريبة ربما حتى اليوم لم أستطع أن أفسرها" .

تطل قطة حسن شريف من باب الغرفة فيشير إليها ويتابع حديثه فيما هي تجلس قبالته وتحدق فيه وكأنها تستمع للحديث، فيتوقف عن سرد ذكرياته، ويقول: "هذه القطة كانت لابنة أخي، واحتاروا أين يذهبون بها، ولأنني أحب الحيوانات الأليفة قررت أن أرعاها، وها هي تملأ عليّ البيت ولا تتوقف عن التنقل بين المعدات والقطع المعدنية وأكوام البلاستيك" .

يضحك شريف ويذهب إلى القطة البيضاء ذات العنق المزين بخرزة سوداء، يحملها، ويقول، لنلقي نظرة على الأعمال في الغرفة الثانية، ويتابع سرد حكايته: "ظل الفن يسير معي مثل ظلي فلم أتوقف عن التجريب والرسم منذ سنوات الدراسة الأولى، وكنت كغيري من الفنانين في ستينات القرن الماضي، وحتى أوائل السبعينات مشغولاً بالمدرسة الواقعية، إلا أن وقع في يدي كتاب باللغة الإنجليزية عثرت عليه في مكتبة كانت في ميدان جمال عبد الناصر في دبي، تعرفت من خلاله إلى بول سيزان، وفان كوخ، وبيكاسو، فشاهدت للمرة الأولى أعمالاً انطباعية وتعبيرية، وغيرها من مدارس الفن الحديث، فتأثرت بتجاربهم، وصرت أتردد إلى المكتبة لعلي أعثر على المزيد من الكتب في ذاك المجال" .
يتذكر حسن شريف . . ويسرد: "في عام 1976 تقريباً، افتتح واحد من مدرسي الفن معهداً لتعليم الفنون في جميرا، وحينها حوّل كراج لتصليح السيارات إلى ورشة لتعليم الرسم، فكنت أتردد إليه بين الحين والآخر، حيث كان يعلم بشكل أكاديمي رسم الطبيعة الصامتة والبورتريه، وغيرها من المبادئ الأساسية للرسم" .
يقف شريف أمام عملٍ مشغول بملاعق الطعام المعدنية، حيث تتشابك وتتعلق بحيث تصنع كتّله لامعة ضخمة، ويكمل حديثه، وكأنه يقارن بين ما بدأه من مشوار، وبين ما وصل إليه، يقول: "شهدت فترة السبعينات الكثير من التجارب والعمل في حياتي، حيث عملت عام 1973 مع فريق عمل "أخبار دبي وهي مجلة محلية، كنت أنشر فيها صفحة للقصص الفكاهية، والرسوم الكاريكاتورية، وكنت في الوقت نفسه أتعاون مع مجلة الوثبة، وصوت الأمة، والنصر، وفي المرحلة ذاتها، منتصف السبعينات شاركت في معرض الشباب الأول، وهو معرض جماعي نظمته وزارة الشباب والرياضة في مسرح دبي الوطني، ومن بعد ذلك المعرض عملت في الوزارة حتى العام 1999" .

ينتهي من تفقد أعماله التي كانت تتحضر للشحن، فيصحبنا إلى مكتبته، حيث تنكشف مرجعياته الفكرية والبصرية، إذ تزخر مكتبته بالكثير من الكتب الفنية في اللغة العربية، والإنجليزية، والفارسية، ويظهر سريره الذي ينام عليه أمام كل تلك الكتب، وكأنه بذلك يترك بيته الرحب ويختار المكتبة مكانا يؤول إليه بعد يوم من العمل والفن .

يصف "بعد أن حصلت على الثانوية العامة عام ،1978 خرجت في بعثة دراسية إلى المملكة المتحدة، وهناك التحقت بكلية "وارويكشاير في رويال لمينجتون سبا" لدراسة الفنون الجميلة التحضيرية، حيث تدرس الكلية فنون الرسم، وتاريخ الفن، والتصوير الفوتوغرافي، والطباعة الحريرية، والمحترف الثلاثي الأبعاد، ثم انتسبت بعد ذلك إلى مدرسة "بأيام شو للفنون في لندن"، ونشأت لي صداقة وطيدة مع الفنانة تام جيلز، مديرة قسم التجريد والتجريب في الكلية" .

يخرج شريف من البيت حيث تطل حديقته التي تبدو أشبه بمعرضٍ دائم، تنتصب فيها الأعمال الفنية، التي يظهر فيها المعدن وكأنه نسيج من القش، أو القماش، وتطل أسلاك الحديد معقودة من منتصفها وكأنها حزمة سنابل، وفيما هو يتفقد أعماله المغلفة بإحكام، يقول: "حين أتذكر بدايات الحركة التشكيلية في الإمارات، وكيف انشغلت بمساحة مغايرة عما كان سائداً، أكتشف حجم التطور والنهوض الفني الذي حدث في الإمارات، فخلال دراستي كنت أعود إلى الإمارات في الإجازات، وكنت أحد المؤسسين لجمعية الإمارات للفنون التشكيلية، كان ذلك في أوائل الثمانينات، حين نظمت الجمعية أول معارضها السنوية عام ،1983 شاركت بعمل زيتي كان يحمل عنوان "تحية تقدير إلى ماليفتش" فتم رفضه من قبل لجنة الجمعية" .

ويتذكر حسن شريف "لم أكن ألوم ردة الفعل تلك الفترة، ففيما كنت أنا قد تعرفت إلى أنماط من الفن المعاصر، وجمعتني صداقات مع فنانين كثر يقدمون أعمالاً مفاهيمية منهم برايان لاوتي، وكنت قد تعمقت في دراسة الفلسفة وعلاقتها بالفنون البصرية، كانت الحركة الفنية في الإمارات غير قادرة على تقبل هذا النوع من الفنون، ومن الطبيعي أن تواجهه بالرفض" .
لا يأخذه عن تلك المرحلة من نهوض الحركة التشكيلية في الإمارات إلا إلى حالة النهوض الثقافي الذي شهدته الدولة، وقام على أكتاف العديد من أسماء الحركة الشعرية والأدبية التي كانت تتفاعل في الإمارات، فيذكر بدايات انخراطه في تشكيل الوعي الجمالي عبر المقالات التي كان يكتبها في الصحف والمجلات المحلية، ويتذكر المغامرات الجمالية التي كان يخوضها لتأكيد الثقافة البصرية في الإمارات، فيروي: "في تشرين الثاني/ نوفمبر من عام 1985 شاركت في معرض في السوق المركزي نظمته مجموعة من الفنانين كنت واحداً منهم، وعرضت عملاً يمثل أكثر من عشرة مربعات، عرض على الأرض، فأثار موجة من الفضول وأحدث ردة فعل في السوق، بعد أن أقيم أول مرة من دون الحصول على تصريح، ولم يستمر سوى ساعات معدودة" .
تتوالى محطات شريف وتجاربه في تأكيد حضور الفن المعاصر في الإمارات ليصبح واحدا من أعلام الحركة التشكيلية العربية، فمنذ تأسيسه للمرسم الحر عام ،1978 إلى مشاركته في بينالي القاهرة، ثم عيشه حالة من العزلة كرس فيها نفسه للكتابة والفن حتى نهاية التسعينات وصولاً لإصدار عدد من المؤلفات، منها "الفن الجديد"، و"آلات حادة لصنع الفن"، وحصوله على العديد من الجوائز ومشاركته في الكثير من الملتقيات الفنية العالمية، وانتهاءً بحسن شريف اليوم، الذي يعد قامة عالمية في الفن المعاصر .