الحصون في البيئة الإماراتية

غالباً ما يكون التوصيف الجمالي لأي أثر مكاني أو تراثي في أي بقعة جغرافية مسنوداً بمجموعة من العناصر التي تمزج بين القديم والحديث، في صورة تنتقل، ومن خلال لحظة سريعة أو برقية، من فضاء التلقي البصري إلى الوعاء الحسي أو المخيالي بنوع من الدهشة والمتعة، هذه المتعة البصرية سرعان ما تتحول في اللحظات القليلة التالية إلى مكون جمالي يخضع للتحليل والمقارنة، وهو الذي يحرض على تلمس تلك الجماليات في لحظات وعي جديد متروك بالكامل لآليات المقارنة والتحليل وربط العناصر ببعضها بعضاً، بهذا التوصيف يمكن متابعة الأثر الجمالي لأي مكان إماراتي سواء كان منزلاً (بيتاً قديماً أو جديداً، مسجداً، جامعة، أو مدرسة، متحفاً أو غير ذلك من القلاع والحصون في البيئة الإماراتية) .
هذا الأثر الجمالي يمكن دراسته تبعاً لتطور الظروف الاقتصادية والاجتماعية في أي بقعة جغرافية، وتبعا لمنظور التطور الحضاري الذي يمكن قياسه أيضا بالتجوال في خريطة العالم شرقاً وغرباً وشمالاً وجنوباً، وبكل الأحوال فإن دراسة المكان -أي مكان- لا تكون منصفة إلا إذا خضعت لمنظور علمي، وعلى وجه الدقة تحليل أنثروبولوجي معياري يراعي البيئة والظروف والنشأة وطبيعة المكان في تلك البيئة سوا كانت بيئة صحراوية أو حضرية أو بحرية وتحوطها المياه من جهاتها الأربع .
وفق هذا المنظور، أنت لا تستطيع أن تدرس الأثر الجمالي في الأمكنة والتماثيل والمتاحف التي خلفها عصر النهضة - على سبيل المثال- وتطبقها على أي أثر في بيئة نائية شهدت العديد من الظروف القاسية، كوجودها في جغرافيا عاشت نمطاً حضارياً قبل آلاف السنين، الحضارة في المفهوم الأنثروبولوجي هنا، هي حضارة نسبية تستمد مقوماتها من تناغم تلقائي فرضته ثقافة المكان ومعتقدات ساكنيه ومدى استيعاب هؤلاء لمجمل وسائل وأساليب العيش التي تخصهم وحدهم دون غيرهم من البشر .
ما الذي يعنيه دراسة الأثر الجمالي في البيئة الإماراتية وفق هذا المنظور؟ هو ما يعنيه بالضبط ذلك الارتباط التاريخي بالمكان، وهو كما قلنا ارتباط عفوي وتلقائي تشكله مجموعة من الأنشطة والتفاعلات التي تدرس على حدة، وبهذا المعنى يمكن فهم ما أكدته كل من: د . جوينتي مايترا وعفراء الحجي في كتابهما (قصر الحصن 1793 - 1966) الصادر عن مركز الوثائق والبحوث في أبوظبي "في الماضي كانت الحصون - حقاً ميزة مهمة لمدن وقرى الإمارات كافة، ورغم أن هذه الأبراج والحصون يبدو بعضها منعزلا عن بعض إلا انها في الواقع ترتبط ببعضها تاريخياً وسياسياً، ومن حيث الفن المعماري أيضا، وقد لعب عدد منها في تلك الفترة دوراً مهماً في تاريخ دولة الإمارات العربية المتحدة، واتخذت مراكز للقوى السياسية والعسكرية، كما أنها تدخلنا في أعماق مرحلة كانت الإنشاءات الدفاعية فيها حيوية للبقاء والعيش بسلام، وقد فرضت السنون والتأثيرات المناخية ضريبتها على عدد كبير منها، إذ كانت في حالة من الدمار وعلى شكل أطلال، ولكن هذه الآثار ما زالت تحتفظ بشذا الأزمان الغابرة وبصلة تربطها مع الماضي" .
يمكن تلمس العناصر الجمالية في المكان الإماراتي قديمه وحديثه في مجموعة لاحصر لها من التفاصيل، في البيوت القديمة تبرز البراجيل والقلاع والحصون لتكون شاهدة على نمط معماري تقليدي مشروط بالعناصر المشكلة لبيئة المكان سواء اقترب من البحر أو استند إلى قمة جبل أو نأى بعيدا في الصحراء، أما بعد تشكل المدينة ودخول الإمارات في عصر الحداثة والتطور، فقد أبدع المعماريون تصميمات هندسية للبيوت والمنازل والمتاحف غاية في الروعة والجمال، لقد استفادوا من انفتاح المدينة على وعي آخر فرضته ثقافات جديدة جراء احتكاك المهندس المعماري بفضاء لا حصر له من التصاميم التي أصبحت تراعي مجموعة من التفاصيل الداخلية والخارجية في إنجاز المباني، لقد تغير الشكل وتغير المحتوى في البناء الإماراتي الحديث ليشمل الأبواب والشبابيك والمواد المستخدمة في الأبواب من مزاليج ومفاتيح وتفصيلات لها علاقة بالخزائن والمفارش والسجاد وغيرها، وربما يكون من حسنات المعمار الجديد، هو قدرته على التفاعل مع كثير من المفردات والتصاميم الجمالية قديمها وجديدها، لقد كانت فكرة البيت بالنسبة لساكنيه - على الدوام- هي فكرة معيوشة ولنقل بشكل أكثر دقة (فكرة متخيلة) بما تحمله من مفردات تراثية وجمالية تلبي حاجة الساكن إلى الراحة والتنقل بحرية في فضاء البيت، وهو الذي يحيل على منظومة قيمية لها أساس راسخ في الوجدان، أصبحت الطرز المعمارية الجديدة تلبي تلك الحاجات الفطرية عند البشر، كما أنها مفتوحة بالمطلق على أي أثر جمالي مستجد ويخدم العناصر الفنية لفكرة التصميم، من دون أن يخل ذلك بروح المكان وأصالته .
من هنا، يمكن دراسة عناصر الجمال في المكان الإماراتي، من دون تقييده بعنصر واحد أو ملمح واحد أو أثر واحد، لكنه بكل تأكيد مفتوح على براعة التخيل، وهو الذي يمكن تلمسه من خلال الشكل الخارجي للبيت، كما هو في الشكل الداخلي ولنأخذ على سبيل المثال تفصيلة الشبابيك، التي شكلت في العمارة التقليدية جزءاً رئيسياً في تكوين المبنى القديم، وكان الشباك يتكون من إطار خارجي بشكل مستطيل به مجموعة من القضبان الحديدية أو النحاسية تمتد من الأعلى إلى الأسفل .
يمكن متابعة مثل هذه التفاصيل في الأبواب والشبابيك والزخارف والنقوش الخشبية في الشارقة، وفي هذا السياق يمكن الاستدلال بما قدمه الباحث سعيد عبدالله ضمن إحدى فعاليات أيام الشارقة التراثية حيث قال في دراسته عن الأبواب وأنواعها ''تمتلك الأبواب مكانة خاصة في البيت العربي لارتباطها بالعُرف والتقاليد والدين، منها الباب المسماري، ويمتاز بقوته وصلابته ويتألف من مجموعة من الشرائح الخشبية المصفوفة بجانب بعضها، ولها أضلاع خشبية قوية توضع بشكل متعامد خلف شرائح الباب الأمامية بواقع أربعة أو خمسة أضلاع وأحياناً أكثر، وذلك بحسب حجم الباب، وتسمى الأضلاع الأفقية ''شلامين'' وتثبت مع شرائح الباب بواسطة مسامير "أبوقبة" أي ذات الرأس الكبير المقبب، وتظهر المسامير في صفوف متوازنة في وجه الباب وتكون بعدد الشلامين الخلفية . . . الخ" .
وبمثل ما احتفظت العمارة التقليدية في الإمارات بطابعها الإسلامي وزخارفها وروعة التصميم العمراني في كل التصاميم الداخلية والخارجية للمنازل والبيوت، فقد استُردت هذه الروح في كثير من الطرز المعمارية الحديثة كمتحف الشارقة للحضارة الإسلامية وندوة الثقافة والعلوم في دبي وفي غير ذلك من المساجد والمتاحف المنتشرة في الإمارات شرقا وغرباً وشمالاً وجنوباً، وقد ظلت على الدوام شاهدة على عراقة الماضي وأصالته، كما انفتحت على مستجدات الحاضر، واستفادت من الطرز المعمارية في دول الغرب المتقدم، لكنها لم تفقد ذلك الوهج الذي يظل مديناً للماضي ومتفاعلاً مع المؤثرات البيئية والحضارية، وقادراً على تطويع الإمكانات كما يؤكد مدير إدارة التراث العمراني في دبي،المهندس رشاد بوخش، من خلال خبرته الطويلة في هذا الميدان .