القاهرة ـ سعيد فرماوي
في محله الصغير الكائن في شارع المعز، تلك المنطقة الأثرية التابعة لوسط القاهرة، يجلس سعد طلعت، (32 عامًا)، بين أوانٍ وأباريق وأكواب ومباخر كلها مصنوعة من النحاس الخام، تظهر ملامحه بالكاد، وفي يده إزميله الصغير ومطرقته الخفيفة، وعيناه تصبان تركيزًا وخبرة تجلت بوضوح على ما نقشته أنامله من نجوم ووجوه فرعونية، وعجلات حربية وزعها بحرفية شديدة، على صينية صغيرة، عله يحفظ حرفته اليدوية وفنه العتيق من الاندثار.
بعد أنَّ انتهى طلعت من نقش قطعة جديدة كتب عليها آية قرآنية، انشغل طويلاً بتلميع فانوس صغير يعود إلى العصر الفاطمي، إذ لفت إلى أنه اشتراه أخيرًا من بائع أنتيكات، مؤكدًا أنَّ مثل هذه القطع تجذب قطاعًا كبيرًا من محبي المشغولات النحاسية، وذلك لمكانتها بين الأسر المصرية حيث كانت تدخل منتجاتها كل بيت مصري، إما بغرض الزينة وإما لأغراض منزلية أخرى.
اعتاد المصريون الاستعانة بالمشغولات النحاسية في احتياجاتهم المنزلية لفترة طويلة استمرت لمنتصف ستينات القرن الماضي، إلى أنَّ وقعت في منافسة حادة مع منتجات أخرى حديثة كالبلاستيك والاستانلس ستيل، وغيرها من الخامات العصرية التي أصبحت بديلاً قويًا تسبب في تراجع المشغولات النحاسية، لذا أصبح عشقها مقصورًا على الميسورين من المصريين إلى جانب السياح.
كما أكد طلعت أنها لا تحتاج إلى جهد كبير منه، فقط يلمعها بسائل ماء النحاس، ثم يعيد حفر ما كان عليها من رسومات، وفي النهاية يترك بصمته الخاصة على القطعة مزينًا إياها برسمة صغيرة تتماشى والعصر الذي صنعت فيه.
وقضى طلعت قرابة الـ25 عامًا بين النحاس ومشغولاته، فمنذ أنَّ كان في السابعة من عمره اعتاد ملازمة والده طوال ساعات عمله، إلى أنَّ أتقن الحرفة لما أتم 12 عامًا، رغم أنها مهنة صعبة ودقيقة، وتحتاج إلى صبر وحس فني عالٍ، وهو ما اكتسبه بالمثابرة وخبرات من سبقوه إليها، فوقتها كان قد تعلم حرفة النقش على النحاس والفضة، مؤكدًا أنَّ والده توارث المهنة عن أجداده، وأنه لن يتخلى عنها إلا بعد أنَّ يتقنها أكبر أبنائه الذي لم يتم عامه العاشر بعد.
وعن مراحل تصنيع المشغولات النحاسية يضيف طلعت: "تتم من دون الحاجة لأي تكنولوجيا عبر الحفر ثم النقر وتنزيل الفضة على النحاس، وتتطلب كل مرحلة مهارة عالية وإتقانًا للخط العربي والرسم الدقيق الذي يتم بأدوات يدوية بسيطة؛ وتشمل منضدة خشبية ومطارق حديدية خفيفة وأقلام حفر فولاذية والأزاميل المتنوعة الحجم والأحماض تستخدم في التلوين إلى جانب المبرد والمقص والملقاط والسندان والكور، كما لا يوجد غنى لأي صانع عن الأدوات الهندسية المعروفة؛ كالمثلث والبرجل والمنقلة والتي تساعده على رسم الأشكال المختلفة بدقة لاسيما المرتبط منها بالفن الإسلامي".
كما أكد أنَّ الرسومات والصور المنقوشة على الأواني النحاسية تختلف من محل لآخر، فهناك نقوش ورسوم ترمز إلى عصر وحقبة زمنية مختلفة والتي تشمل الفرعوني، القبطي، الروماني، الفاطمي، المملوكي، العثماني، ولكل منها سعرها وزبونها الذي يطلبها وهو ما أوجد كمًا هائلاً من الأشكال الجمالية التي يشتهر بها الصانع المصري.
مشيرًا إلى أنَّ صانع النحاس يبدأ بعد تحديد شكل الآنية المطلوب صنعها في رسم النقوش بأقلام النقش الفولاذية عبر المطرقة والسندان، ثم تمسح القطعة جيدًا حتى تعود إلى أصلها الطبيعي، ثم يتم عزل القطعة التي يراد الحفر عليها بمادة شمعية لا تتأثر بالأحماض، ثم يقوم الصانع بالرسم بواسطة قلم حاد على هذه المادة ويتم تحديد الشكل المطلوب ما يسمح بوصول الحمض إلى جسم المعدن فوق الخدش أو الرسم، ثم يقوم بغمس الآنية في حمض الآزوت الممدد وتركه لفترة حتى يأخذ الشق حجمه المطلوب، وبعد إخراج القطعة من الحمض وغسلها وتنشيفها يتم تركيب خيوط الفضة في هذه الشقوق بالطرق الخفيف إلى أنَّ يأخذ مكانه الصحيح وتسمى هذه الطريقة التطعيم بالفضة.
وعن أهم المشكال التي تعوق هذه الصناعة، يقول طلعت: "من أهم هذه المشاكل ارتفاع أسعار النحاس بشكل كبير خلال هذه الفترة، ما أدى إلى هروب الكثير من أبناء هذه المهنة إلى مهن أخرى لقلة الربح، كما أدى ذلك إلى تغيير نشاط كثير من الورش الكبيرة التي كانت تعمل في النحاس للعمل في الصاج، إضافة إلى قلة صبر الأجيال الجديدة ممن لا يعرفون قيمة ذلك الفن الرفيع، فضلاً عن استيراد منتجات النحاس من الصين والذي يعتمد على الشكل الخارجي فقط، فألوانه تمحى بعد فترة قصيرة من الزمن وجودته ضعيفة جدًا، إضافة إلى أنَّ رخص أسعارها يجعل الكثيرين يقبلون عليها، وفضلاً عن ذلك بعض المصانع والورش التي تعتمد على الحفر الكيميائي للنحاس، ما أضعف من مهنة النقش على النحاس اليدوية بصورة كبيرة الآن وهددها بالانقراض، إلا أنه بالرغم من ذلك تبقى هذه المهنة هي الأكثر عراقة وبراعة تدل على الفنون الإسلامية".
يذكر أنَّ تاريخ هذه الزخرفة يعود إلى بداية ازدهار الحضارة الإسلامية، حيث تجلت في تزيين مباني المساجد والمدارس والقصور التي عرفت بالفنون الزخرفية، فيما توارثها الأبناء من آبائهم وأجدادهم، لتبدع أنامل الفنانين أجمل الفنون الزخرفية من النحاس .