معرض "أبو ظبي للكتاب"

تنطبق صفة "العالمية" على معرض "أبو ظبي للكتاب"، أكثر مما تنطبق على سواه من المعارض العربية التي تصر على حمل هذه الصفة، فهذا العام وفي الذكرى 25 لتأسيسه، رسخ معرض أبو ظبي هذه الصفة، ليس فقط عبر استضافته دورًا عالمية ومراكز ثقافية من أوروبا والأميركيتين الشمالية والجنوبية وآسيا؛ بل في احتفائه بالأدب الأيسلندي من خلال استضافته 12 كاتبًا وكاتبة من حقول شتى، كالرواية والشعر والنقد وأدب الأطفال.

وتمكنت هذه التظاهرة من تقديم صورة "بانورامية" عن هذا الأدب شبه المجهول عربيًا مثله مثل الآداب الاسكندينافية عمومًا، وإحياءً على هذه التظاهرة؛ استضاف المعرض كتّابًا ومفكرين من اليابان والولايات المتحدة والهند والصين وروسيا وإسبانيا والمكسيك واسكتلندا وفرنسا وألمانيا وبريطانيا وبولندا وتركيا، ناهيك عن الدول العربية التي لا يحصى عدد كتابها المدعوين إلى المعرض.

أما اللافت فهو اتخاذ مشروع "كلمة" الهادف إلى إحياء حركة الترجمة في العالم العربي، من معرض "كتاب أبو ظبي" منطلقًا له ولأعماله ولترسيخ علاقته بدور النشر الأجنبية ثم العربية التي يسعى إلى دعمها في حقل الترجمة، وأضحى "كلمة" من أهم المراكز العربية التي تعنى بالترجمة من اللغات الأجنبية إلى العربية، حيث أرسى القواعد العالمية للترجمة ورسخ معاييرها العلمية.

 وتعزيزًا لنقله الكتب والموسوعات إلى العربية إحياءً لحركة الترجمة، عمد إلى تنظيم ورش يشارك فيها مترجمون من أجيال شتى ولغات أو ثقافات متعددة في سياق مبادرته لتمكين المترجمين؛ ولكن بعيدًا من أي ادعاء أو اصطناع، وهذه الورش تستمر بعد انتهاء المعرض وتواصل تبادل الخبرات والمعارف من خلال المشروع.

ويسأل زائر المعرض الذي قرر متابعة الندوات واللقاءات الأدبية والشعرية والفكرية التي حفل فيها المعرض، وبلغت الرقم 600، كيف عليه أن يلم بها؟ وكيف كان لها أن تلتئم خلال سبعة أيام وليال، فترة المعرض؟ أما السؤال الثاني فهو: كيف تمكن المعرض من دعوة كل هؤلاء الضيوف الذين جعلوا من فسحة المعرض "برج بابل" حقيقيًا؟ ولكن عوض أن تختلط فيه اللغات وتتصادم، تآلفت وانصهرت لتصنع مشهدًا ثقافيًا رهيبًا بتعدده وضخامته.

وحتى إن لم تمتلئ معظم قاعات الندوات والخيم بجمهور من المستمعين، فلم تخل البتة من جمهور مهتم ومتابع يطرح الأسئلة ويشارك في الحوار، وهذه ظاهرة لافتة، فالجمهور مهما تضاءل يجد ضالته في المعرض والقضايا التي يبحث عنها، فأصبح المعرض حيزًا عربيًا فريدًا للقاءات الأدبية والثقافية العالمية والعربية، علاوة على انفتاحه أمام ثقافة النشر الحديث وإتاحته الفرصة للناشرين العرب للتعرف على خبرات النشر العالمي العصري والالكتروني.

وأتاح فرصة مهمة أمام جمهوره للتعرف إلى الأدب الأيسلندي العريق في معظم تجلياته الحديثة، لا سيما الروائية والشعرية، واستضاف المعرض نخبة من المؤلفين والناشرين الأيسلنديين ومنهم: أستاذ دراسات الترجمة في جامعة "أيسلندا" غاوتي هيرمانسون، فضلًا عن اثنين من أبرز الشخصيات الروائية: كالمان ستيفانسون، ومؤلف سلسلة روايات الجريمة "أيسلندا المظلمة" التي حققت أعلى نسبة مبيعات في أيسلندا راغنار جونسون.

وتضمن المعرض جناحًا لجمهورية أيسلندا، يسلط الضوء على باقة متنوعة من الكتب والمطبوعات لأبرز المؤلفين في البلاد في مجالات: الشعر، المسرح، الرواية، أدب الجـريمة، كتب الأطفال والكتب المصورة.

وعر ض سلسلة من المحاضرات والحوارات التي تناولت مجموعة متنوعة من المواضيع، ومنها محاضرة بعنوان "العرب والفايكينغ في العصور الوسطى"، ألقاها الأستاذ المتخصص بدراسات القرون الوسطى ثورير هراوندال جونسون، ونظم جلسة نقاش مع كاتبة الروايات البوليسية الأيسلندية الشهيرة يرسا سيغورداردوتير التي انضمت إلى جونسون في جلسة حوار مشتركة بعنوان "دماء على الجليد" لاستكشاف أساليب كتابة روايات الجريمة في بلد يخلو من الجرائم.

وتم تسليط الضوء على الشعر الأيسلندي بمشاركة الشاعر المعروف أدلستين أسبرج سيغوردسون والشاعر والمترجم الأيسلندي من أصل فلسطيني مازن معروف، وعقدت  جلسة حوار خصوصية بعنوان "التعرف إلى هالتور لاكسنس»" أول أديب آيسلندي يفوز بجائزة "نوبل" لعام 1955، وحاز جائزة أفضل كتاب عن روايته المتميزة "النسّاج العظيم من كشمير"، وأعماله تتمحور بمعظمها حول بلده الأم أيسلندا.

وأنظمت جلسة حوارية بعنوان "الملاحم الآيسلندية" بمشاركة هيرمانسون والكاتب غودموندور أندري ثورسون، وتناولت النماذج الأولى لأدب الملاحم الاسكندينافية، وأُعد لقاء مع الروائي الشهير كالمان ستيفانسون الذي أبدع عوالم خيالية ساحرة ووقع روايته "جحيم وسماء" في ترجمتها العربية الصادرة حديثًا عن "دار المنى".

 ومؤتمر أبو ظبي الرابع "للترجمة" الذي ينظمه مشروع "كلمة" حمل هذه السنة شعار "الترجمة الروائية: الصعوبات والتحديات"، وشارك فيه عدد كبير من المختصين والخبراء من مختلف أنحاء العالم ودام أربعة أيام، وسلط المشاركون فيه الضوء على واقع حركة الترجمة الروائية من اللغة العربية وإليها، والصعوبات والتحديات التي تواجهه.

واقترح المشاركون حلولًا للمعوقات التي تواجه مترجمي الرواية للنهوض بحركة ترجمتها، وناقش المتخصصون في ورشات عمل تدريبية عدة نصوصًا باللغة الإنجليزية والإسبانية واليابانية، بهدف استخلاص وغرس مهارات فنية معينة تتعلق بنقل النص إلى اللغة المستهدفة، وتولى قيادة ورش العمل مجموعة من المديرين، أكاديميون ومتخصصون  ومحترفون في مجال الترجمة.

وعُقدت خلال المؤتمر أربع ورش عمل تدريبية متوازية حول الترجمة الروائية من اللغات الإنجليزية والإسبانية واليابانية إلى اللغة العربية، ومن الإنجليزية إلى العربية، وأشرف على ورشة الترجمة من اليابانية أستاذ اللغة اليابانية وعلومها في جامعة "طوكاي" في اليابان المؤمن عبد الله، وورشة الترجمة من الإسبانية أشرفت عليها الحاصلة على الدكتوراه من جامعة "غرناطة" في إسبانيا زينب بنياية.

بينما أشرف الأكاديمي محمد عصفور على ورشة الترجمة من الإنجليزية إلى العربية وأدار رئيس قسم الأدب الإنجليزي في جامعة "الإمارات" صديق جوهر، ورشة الترجمة من العربية إلى الإنجليزية.

وشاركت في الورش مجموعة من الطلاب المتدربين من الجامعات العربية والأجنبية، وعملوا خلالها على ترجمة نصوص متخصصة من الإنجليزية واليابانية والإسبانية، فضلًا عن جلسات عمومية ناقشت قضايا نظرية تتعلق بالترجمة ومشكلاتها مع التركيز على النصوص الروائية باعتبارها فنًا أدبيًا خصبًا يتسع لطرح قضايا متباينة.

 وأعلن "كلمة" عن انتهائه من التكليف بترجمة مائة كتاب من لغات متنوعة، تتضمن 20 كتابًا من الكلاسيكيات التي سقطت عنها حقوق الملكية الفكرية، و80 كتابًا من الإصدارات الحديثة التي لا تزال حقوقها سارية، وأبرز المدير التنفيذي لقطاع "دار الكتب" في هيئة أبو ظبي للثقافة، جمعة القبيسي، أنّ الخطة العمومية لمشروع "كلمة" تعتمد على ترجمة مائة كتاب في العام.

واستدرك القبيسي، ولكن بفضل الخطط المدروسة والخطوات الدقيقة والعلاقات الناجحة مع دور النشر العالمية والمعاهد والجامعات الأجنبية، نجح المشروع في تجاوز المائة كتاب في بضعة أعوام، وفي ظل الإنجازات المتتالية لـ"كلمة" والخطط المنهجية للمشروع، من المتوقع أن يرتفع عدد إصداراته خلال الأعوام القليلة المقبلة إلى أكثر من 1000 كتاب.

وبين مدير إدارة البرامج في المكتبة الوطنية في الهيئة علي بن تميم، أنّ "التكليف بترجمة مائة كتاب يتضمن أداء عمليات متتالية، تبدأ أولًا بوضع قائمة بالعناوين المرشحة للترجمة، وهناك قنوات عدة يعتمدها المشروع لاختيار الكتب، نذكر منها: قوائم الكتب العالمية والكتب التي نالت جوائز عالمية، ومقترحات المترجمين والناشرين الأجانب.

وأردف تميم، ومن ثم يتم عرض العناوين المختارة على لجنة التحكيم لتجنب العناوين التي سبقت ترجمتها واختيار العناوين التي تغطي مجالات النقص في المكتبة العربية وتتفق مع حاجات القارئ العربي.

وشدد على أنّه تقديرًا منه والتزامًا باحترام حقوق الملكية الفكرية للكتاب، لا يترجم مشروع "كلمة" أي كتاب من الإصدارات الحديثة؛ إلا بعد الحصول على موافقة الناشر بموجب عقد حقوق يتضمن الموافقة على منح المشروع  حقوق الترجمة العربية للكتاب، علمًا أنّ الحصول على حقوق الكتاب الواحد يتطلب مراسلات تمتد بضعة أشهر.

ونظم "كلمة" لقاءً مع المؤرّخ والناشر "دار سندباد- اكت سود" السوريّ المقيم في فرنسا فاروق مردم بك، حول الترجمة العربيّة لكتابه "مطبخ زرياب"، وأدار الحوار الشاعر والأكاديميّ العراقي كاظم جهاد.

ويذكر أنّ "مطبخ زرياب" ترجمه عن الفرنسيّة الكاتب اللبناني جان جبّور، وكان حظي الكتاب فور صدوره بشهرة في فرنسا وتُرجم إلى لغات أوروبيّة، واختار المؤلّف لكتابه العنوان المذكور تيمّنًا بزرياب، "الطائر الأسود" الذي غادر العراق موطنه عام 820 ليستقرّ في قرطبة، ويوحي اسمه فورًا بالكياسة والأناقة، وأيضًا بالتجدّد الدائم، ويُنسب إلى هذا الموسيقيّ العبقريّ تأسيس المدرسة الأندلسية وإضافة الوتر الخامس إلى العود.

إلّا أنّ هذا الشاعر الذي كان يحفظ عن ظهر قلبٍ كلمات عشرة آلاف أغنية وألحانها، اهتمّ أيضًا بالجغرافيا وعلم الفلك، وربّما المرّة الأولى التي يتطرّق فيها كاتبٌ إلى ثقافة الطعام العربية بمجملها، في المشرق والمغرب على السواء، من خلال مراجع علميّة، وشواهد أدبيّة، ونوادر تاريخية، وانطباعات سفر ووصفات مطبخيّة، تساهم كلّها في تسليط الضوء على التلاقح الثقافيّ الذي كان الإسلام مُسوّغه الأبرز في حوض البحر المتوسّط طَوال عشرة قرون على الأقلّ.