بنك إنكلترا


أحدث تصويت أكثر من 17 مليون بريطاني لصالح انسحاب بلادهم من الاتحاد الأوروبي في الاستفتاء الذي نظم الخميس، زلزالاً في القارة العجوز وفي أماكن أخرى من العالم. وبتصويت 51.9 في المائة من الناخبين لصالح "الانسحاب"، باتت بريطانيا أول دولة تغادر الاتحاد الأوروبي الذي دخلته في 1973، وتسببت نتيجة الاستفتاء، في "يوم جمعة أسود" خسرت فيه أسواق المال العالمية 3 تريليونات دولار، كما تراجع الجنيه الإسترليني بشكل لافت، وأعلن "بنك إنكلترا" استعداده لضخ 250 مليار جنيه إسترليني (342 مليار دولار) في الأسواق لضمان توفر السيولة.
ودفعت هذه التطورات، رئيس الوزراء ديفيد كاميرون إلى إعلان استقالته، وتأكيد أن عملية الخروج من الاتحاد سيقودها رئيس وزراء آخر، وأظهرت النتائج انقسام المملكة المتحدة؛ إذ صوتت لندن واسكتلندا وآيرلندا الشمالية لصالح "البقاء" بينما صوت شمال إنكلترا وويلز لـ"الانسحاب". ولكن رغم تصويت اسكتلندا للبقاء، فإن رئيسة وزراء الإقليم نيكولا ستورجن، قالت إن خطة تنظيم استفتاء ثان لاستقلال اسكتلندا عن المملكة المتحدة "باتت على الطاولة"، وأحدثت نتيجة الاستفتاء البريطاني هلعًا في أوروبا ومخاوف من تسارع انهيار الاتحاد. واعتبرت المستشارة الألمانية أنغيلا ميركل اختيار الخروج "ضربة موجهة إلى أوروبا وإلى آلية توحيد أوروبا"، بينما رأى الرئيس الفرنسي فرنسوا هولاند أن "تصويت البريطانيين يضع أوروبا في مواجهة اختبار خطير" مبديا أسفه الكبير لهذا الخيار الأليم"، "من المبكّر للغاية الخروج بتوقعات حول تأثير انسحاب بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، فالصورة لم تتضح بعد"، هكذا كان ردّ متحدّث باسم صندوق النقد الدولي على سؤال "الشرق الأوسط" حول تداعيات نتيجة الاستفتاء البريطاني التاريخي على الأسواق العالمية. وكذلك كان ردّ معظم المسؤولين السياسيين والاقتصاديين في الساعات الأولى من صباح أمس.
وعمّت حالة من الصدمة والذهول والخيبة مكاتب حملة البقاء في الاتحاد الأوروبي ومقرّ رئاسة الوزراء "10 داونينغ ستريت" عند الرابعة والنصف فجر أمس بعد أن اتّضح تقدّم معسكر الخروج في نتائج الاستفتاء الذي نظم الخميس. ووجّه البريطانيون ضربة قوية للمؤسسة الأوروبية التي تأسست قبل ستين عاما، وتسببوا في "جمعة سوداء" في أسواق المال بعد أن أزيل الستار عن نتيجة وضعت المناصرين للخروج في المقدّمة بـ51.9 في المائة من الأصوات، وكان رئيس الوزراء البريطاني أول ضحايا عملية ديمقراطية بادر بها خلال حملته الانتخابية الأخيرة، وأعلن عن استقالته في خطاب ألقاه في العاصمة لندن إلى جانب زوجته سمانثا. وقال كاميرون إن "البريطانيين اتخذوا قرارا واضحا، وأعتقد أن البلاد بحاجة لقائد جديد حتى يسير في هذا الاتجاه"، موضحا أنه سيبقى في منصبه حتى الخريف، إلى حين تعيين من سيخلفه خلال مؤتمر حزب المحافظين في أكتوبر/تشرين الأول)، وأضاف أن من سيخلفه هو الذي سيبدأ المفاوضات مع الاتحاد الأوروبي حول عملية الخروج.
وتطرح استقالة كاميرون تكهنات حول خليفته بعد أن دار الحديث عن تطلع زعيم حملة الخروج المحافظ بوريس جونسون، رئيس بلدية لندن السابق، للمنصب. ولدى خروج جونسون من منزله، استقبله حشد من نحو مائة شخص من مؤيدي البقاء بهتافات "أحمق". وقال لاحقا للصحافيين بأن الخروج من الاتحاد الأوروبي يجب أن يحدث "من دون استعجال".

وكان مارك كارني، محافظ البنك الإنكليزي (البنك المركزي البريطاني) ثاني مسؤول بريطاني يتحدّث بعد كاميرون، بهدف طمأنة الأسواق العالمية والشركات العالمية. وأفاد كارني أن المركزي مستعد لدعم الاقتصاد الوطني بأكثر من 250 مليار جنيه إسترليني (344 مليار دولار)، مضيفا في بيان أنه "يمكن توقع بعض الاضطرابات السوقية والاقتصادية في الوقت الذي تتطور فيه هذه العملية"، وتابع كارني بأن البنك "لن يتردد في اتخاذ الإجراءات الإضافية اللازمة، في الوقت الذي تتكيف فيه الأسواق ومع مضي الاقتصاد البريطاني قدما". وأشار إلى أن انسحاب بريطانيا لن يكون له أي تأثير فوري على الحياة اليومية، وفي تعليق حول طبيعة الإجراءات الإضافية، أوضح متحدّث باسم البنك لـ"الشرق الأوسط" أن البنك قرّر إتاحة السيولة اللازمة للبنوك للتأقلم مع الوضع الجديد، لافتا إلى أنه قد يقرر ضخّ سيولة إضافية الثلاثاء المقبل إن تطلّب الأمر ذلك.
وساد الهلع في الأسواق، وسجّلت بورصتا باريس وفرنكفورت تراجعا كبيرا ولا سيما في أسهم المصارف. وقال المحلل في مجموعة "إي تي إكس كابيتال" جو راندل لوكالة الصحافة الفرنسية إنها "واحدة من أكبر الصدمات في التاريخ (...) كل العالم سيشعر بانعكاساتها. يصعب تقدير حجم الأضرار، ولكنه سيكون على الأرجح أكبر من كل الأحداث التي حصلت منذ إفلاس ليمان براذرز" في 2008، ولا يهدد خيار المغادرة اقتصاد بريطانيا فحسب، وإنما كذلك وحدتها إذ أعلنت رئيس وزراء اسكوتلندا نيكولا ستورجون، زعيمة الحزب القومي الاسكوتلندي أمس، أن خطة تنظيم استفتاء ثان للاستقلال باتت "على الطاولة"، وفي آيرلندا الشمالية، دعا حزب "شين فين" المؤيد للبقاء في الاتحاد الأوروبي إلى الاستفتاء على توحيد آيرلندا. بينما اعتبرت مدريد أن الخروج من الاتحاد الأوروبي يتيح لها استعادة جبل طارق، في حين تسعى لندن إلى طمأنة هذا الجيب البريطاني في جنوب إسبانيا.
وسيتعين على بريطانيا كذلك العمل على تضميد الجراح التي سببتها الحملة التي تخللتها خطابات جارحة، وقتلت خلالها النائبة جو كوكس المؤيدة للبقاء، وعكست نتائج الاستفتاء الذي بلغت نسبة المشاركة فيه 72.2 في المائة انقسام المملكة المتحدة، إذ صوتت لندن واسكوتلندا وآيرلندا الشمالية مع البقاء، في حين صوت شمال إنجلترا وويلز مع المغادرة. ووجّه رئيس بلدية لندن، صديق خان، رسالة للأوروبيين المقيمين بالعاصمة يطمئنهم بأن الخروج من الاتحاد لن يؤثر عليهم. وكتب خان على صفحته بموقع "فيسبوك": "هناك نحو مليون أوروبي يعيشون في مدينتنا، يعملون بكدّ، ويدفعون الضرائب، ويساهمون في حياتنا الاجتماعية والثقافية. كمدينة، نحن ممتنون لكم، ولن يتغير شيء بعد الاستفتاء".
وأعلن أمين عام حزب الاستقلال "يوكيب" يميني شعبوي، نايجل فراج "استقلال بريطانيا" قبل الإعلان عن النتائج. وطالب فراج بإعلان 23 يونيو (حزيران) إجازة وطنية، احتفالا باستقلال البلاد، مؤكدا أن النتيجة تشكل "انتصارا للناس الحقيقيين والناس العاديين". ودعا فراج المناهض لأوروبا والمهاجرين إلى العمل فورا على تشكيل حكومة تعكس تطلعات معسكر "الخروج"، وأوروبيا، سارع قادة الاتحاد الأوروبي إلى التأكيد على تصميمهم على الحفاظ على وحدة أعضائه الـ27. فيما اعتبروا أن القرار البريطاني بالانسحاب يشكل "يوما حزينا" لأوروبا، لا سيما أن بريطانيا هي أول دولة تغادر الاتحاد الأوروبي الذي دخلته في 1973، ورغم التحذير من كارثة اقتصادية تحدث عنها المعسكر المؤيد للبقاء في الاتحاد والمؤسسات الدولية، فضل البريطانيون تصديق الوعود باستعادة استقلاليتهم إزاء بروكسل ووقف الهجرة من دول الاتحاد الأوروبي، والتي كانت المواضيع الرئيسية في الحملة المضادة. وهكذا انسحبوا من مشروع رأوا فيه بشكل أساسي سوقا موحدة كبرى، لكن من دون الانخراط في المشروع السياسي. ويفيد الأستاذ إيان بيغ من جامعة لندن للاقتصاد أن "العاطفة هي التي غلبت".
ويشكل قرار البريطانيين تنكّرا للاتحاد الذي يعاني من أزمة الهجرة ومن التباطؤ الاقتصادي. واعتبر الرئيس الفرنسي فرنسوا هولاند أن "تصويت البريطانيين يضع أوروبا في مواجهة اختبار خطير"، مبديا أسفه "الكبير لهذا الخيار الأليم". وقال: إنه "لم يعد بوسع أوروبا الاستمرار كما من قبل (...) عليها في هذه الظروف أن تبدي تضامنها وقوتها" وأن تركز على الأساسي أي الأمن والاستثمار والانسجام المالي والاجتماعي.
واعتبرت المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل اختيار الخروج "ضربة موجهة إلى أوروبا وإلى آلية توحيد أوروبا". ودعا رئيس وزراء إيطاليا ماتيو رينزي إلى "تحديث البيت الأوروبي"، ويخشى أن يحدث قرار البريطانيين حالة من العدوى في أوروبا مع تنامي الحركات الشعبوية واتفاقها على توجيه الانتقادات لبروكسل والمؤسسات الأوروبية، حيث دعت زعيمة اليمين المتطرف الفرنسي مارين لوبن على الفور إلى استفتاء في فرنسا، كما طالب النائب الهولندي عن اليمين المتطرف غيرت فيلدرز بالأمر نفسه لهولندا، أما المرشح الجمهوري للانتخابات الرئاسية الأميركية، دونالد ترامب، فاعتبر أمس أن خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي أمر "رائع" إثر وصوله إلى اسكوتلندا، وقال رئيس المجلس الأوروبي دونالد توسك بأن الاتحاد الأوروبي "مصمم على الحفاظ على وحدة أعضائه السبعة والعشرين". ومن المقرر عقد اجتماع لوزراء خارجية الدول الست المؤسسة للاتحاد ابتداء من السبت في برلين.
وعبّر الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون الجمعة عن أمله في أن يبقى الاتحاد الأوروبي "شريكا قويا" للمنظمة الدولية في المسائل الإنسانية والسلام والأمن "بما يشمل الهجرة". فيما أملت روسيا الجمعة في أن يتيح خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي تحسين العلاقات بين لندن وموسكو. وقال الناطق باسم الكرملين ديمتري بيسكوف "نأمل في هذا الواقع الجديد، أن تطغى ضرورة إقامة علاقات جيدة" معبرا عن أسفه لعدم "وجود رغبة تعاون من جانب شركائنا البريطانيين حتى الآن"، وأعلنت الصين الجمعة أنها "تحترم" قرار الناخبين البريطانيين معبرة عن رغبتها في أوروبا "مزدهرة ومستقرة"، وكان الصينيون والبريطانيون أعلنوا في الأشهر الماضية عن "عصر ذهبي" للعلاقات بين البلدين فيما دعا الرئيس الصيني شي جينبينغ خلال زيارته إلى بريطانيا في أكتوبر لندن إلى البقاء ضمن الاتحاد، ويفترض أن تبدأ بريطانيا عملية تفاوض قد تستمر سنتين مع الاتحاد الأوروبي حول شروط الخروج، وفي هذه الأثناء تبقى ملتزمة بالاتفاقات المبرمة. ولكن قادة المؤسسات الأوروبية حثوا لندن منذ الجمعة على البدء في أسرع وقت بهذه المفاوضات معلنين استعدادهم لذلك.