إيمانويل ماكرون

انتخب الفرنسيون إيمانويل ماكرون رئيساً للجمهورية قبل عام، بوجه منافسته مارين لوبان، زعيمة اليمين المتطرف، وكانت تلك محاولته الانتخابية الأولى التي أوصلته إلى قصر الإليزيه بعكس جاك شيراك، وفرنسوا ميتران، اللذين حاول كل منهما ثلاث مرات قبل أن تفتح بوجهه أبواب القصر الرئاسي.

ويتميز ماكرون على الرغم من أن نيكولا ساركوزي اليميني، وفرنسوا هولاند الاشتراكي فازا أيضًا منذ الدورة الأولى، بأنه كان بلا حزب يقف وراءه، وبلا تاريخ سياسي وانتخابي يشكل القاعدة التي يستند إليها لإقناع الناخبين؛ ومع ذلك، وبسبب ظروف سياسية استثنائية، وصل هذا الشاب ابن الـ38 عامًا، إلى أعلى منصب في الجمهورية الفرنسية، قالبًا الموازين، ومتخطيًا الانقسام التقليدي بين اليمين واليسار، ومقدمًا برنامجًا إصلاحيًا ليبراليًا يسعى منذ 12 شهرًا لوضعه موضع التنفيذ بلا تأخير، على الرغم من الصعوبات الاجتماعية والاقتصادية التي تقف بوجهه، بما فيها الإضرابات التي تعيشها فرنسا منذ نحو الشهر في قطاع سكك الحديد والطيران التجاري والطلاب والمتقاعدين.

"رئيس الأغنياء"

لا يخاف ماكرون أن يطلق عليه اسم "رئيس الأغنياء" بسبب التدابير الاقتصادية التي أقرها، ومنها إلغاء الضريبة على الثروة وإلغاء ضريبة "الهرب المالي" للشركات وأصحاب رؤوس الأموال إلى فضاءات ضريبية أكثر تسامحاً، وتعديل قانون العمل لجعله أكثر طواعية بأيدي أرباب العمل، ويبدو أن هذه التدابير من النوع الذي يرضي اليمين الفرنسي؛ لأن آخر استطلاع للرأي نشرت نتائجه صحيفة "لوفيغارو" اليمينية يبيّن "رضا" اليمين على ماكرون؛ لأنه كسب 14 نقطة لدى محازبي "الجمهوريون" وهو الحزب اليميني الكلاسيكي، بينما تهاوت شعبيته لدى اليسار واليسار المتشدد، وأخذت الطبقة المتوسطة تبتعد عنه بسبب سياساته الضريبية ثقيلة الوطأة عليها، وفق ما ذكرت صحيفة الشرق الأوسط.

منذ اليوم وحتى الرابع عشر من الشهر الحالي، موعد الذكرى الأولى لانتخابه، سيكتب الكثير عن ماكرون وعن سياساته في الداخل فيما خص سياسته الخارجية. فالرجل وصل إلى الرئاسة حاملاً طموحات خارجية كبرى، أولها إعادة فرنسا إلى الخريطة الدبلوماسية العالمية وقبلها الأوروبية. فأوروبا كانت في حالة من الوهن والتراجع بسبب تقدم اليمين المتطرف والتمزقات بين أعضاء الاتحاد والسياسات "المارقة" لعدد من بلدان أوروبا الوسطى والشرقية، (المجر، تشيكيا، سلوفاكيا، رومانيا)، والعجز عن التوصل إلى تفاهم لإدارة ملف الهجرات الكثيفة التي بدأت بالوصول إليها مع بداية عام 2015.

ويضاف إلى ذلك كله، أن نجم المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، الشريك الأول لفرنسا كان قد بدأ بالأفول، وهو ما أظهرته الانتخابات التشريعية الخريف الماضي والصعوبات التي واجهتها المستشارة في تشكيل حكومة ائتلافية. وأخيراً، كانت أزمة خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي "بريكست" تشكل "خطرًا وجوديًا" على مستقبل الاتحاد، بل بعض التوقعات المتشائمة توقعت تهاويه إذا سار أعضاء آخرون على خطى لندن.

ووصل إلى الإليزيه وسط هذه الغيوم الداكنة المهيمنة على أوروبا، رئيس شاب عديم الخبرة في السياسة الدولية، في حين بدأت بالظهور بعض مؤشرات العودة إلى أيام "الحرب الباردة" بين الشرق ممثّلاً بروسيا، والغرب ممثلاً بالولايات المتحدة الأميركية التي يحكمها رئيس أقل ما يقال فيه إنه من طراز خاص. بيد أن الرئيس الشاب معتنق مبدأ "البراغماتية" في السياسة الخارجية، دشن عهده بالسعي لبناء "علاقة خاصة" مع دونالد ترمب ومن غير إهمال نظيره الروسي فلاديمير بوتين. التقى الأول بعد أيام قليلة من انتخابه في بروكسل ولاحقاً في إيطاليا، في العاصمة البلجيكية بمناسبة قمة الحلف الأطلسي في 24 مايو /أيار من العام الماضي، وفي مدينة تاورمينا الإيطالية بعد أيام قليلة بمناسبة قمة مجموعة السبع.

ومنذ الدقائق الأولى، سعى ماكرون لنسج "علاقات خاصة" مع ترامب، بينما كان السياسيون والمثقفون، فضلاً عن الصحافة الأوروبية، تصب حممها على هذا الرئيس "المتقلب" القادم من عالم آخر (المال والأعمال) إلى نادي رجال الدولة.

ونجح ماكرون في ذلك، وجاءت الترجمة العملية في دعوته ترامب ليكون ضيف الشرف بمناسبة العيد الوطني الفرنسي في 14 يوليو /تموز 2017 والعرض العسكري في جادة الشانزلزيه، فضلاً عن عشاء "خاص" رباعي جمع ماكرون وترامب وزوجتيهما في أحد أشهر المطاعم الفرنسية.

ورد ترمب التحية بأفضل منها، حيث دعا ماكرون في أول زيارة دولة منذ وصوله إلى البيت الأبيض، واكتشفت شاشات التلفزة في العالم كله عدد المرات التي قبّل فيها ترمب ضيفه الفرنسي، وكم مرة تصافحا.

غير أن القُبل والمصافحات لا تبني سياسة ولا تحقق إنجازات. وهذه التجربة المرّة عاشها ماكرون، حيث إن ترمب لم يتردد في سحب الولايات المتحدة من اتفاقية المناخ الموقعة في باريس نهاية عام 2015، أو في الخروج من اليونيسكو ومن منظمات دولية أخرى، ولا في فرض رسوم باهظة على صادرات الاتحاد الأوروبي إلى الولايات المتحدة، فضلاً عن قراره إعلان القدس عاصمة لإسرائيل، وقرار نقلها في السادس من الشهر الحالي. وأخيراً وليس آخراً، عزمه على "تمزيق" الاتفاق النووي مع إيران الموقع صيف عام 2015، رغم كل المساعي التي بذلها ماكرون خلال زيارته الأخيرة لواشنطن وقبلها وبعدها.

وتعد حصيلة سياسة ماكرون "الأميركية" جاءت سلبية، وليس فيها ما يستطيع التوكؤ عليها، للزعم أنه نجح في تغيير مخططات ترمب الذي يدير شؤون أميركا ويؤثر على شؤون العالم بتغريداته الصباحية، وليس من يستطيع اليوم أن يحكم على ما سيقوم به ترمب في الثاني عشر من الشهر الحالي، وما بعده بالنسبة للملف النووي الإيراني.

وآخر المحاولات "أو الخطط" التي طرحها ماكرون الذي يسعى لإبرام اتفاق جديد مع إيران يبقي على اتفاق 2015، لكن يستكمل باتفاق حول النشاطات النووية الإيرانية لما بعد عام 2025، إضافة إلى "احتواء" برامج طهران الصاروخية والباليستية وسياستها الإقليمية في اليمن، والعراق، وسوريا، ولبنان، والخليج، لكن مصير ما يقترحه الرئيس الفرنسي يبقى مربوطاً بما سيراه ترمب، وبما تقبل طهران ومعها موسكو التفاوض حوله، علماً بأن الطرفين يرفضان رفضاً مطلقاً العودة إلى التفاوض بشأن اتفاق 2015.

ثمة ملف ربما يستطيع الرئيس الفرنسي أن يدعي أنه نجح في لي ذراع ترامب بصدده، وهو الملف السوري، ففي مقابلة تلفزيونية منتصف الشهر الماضي، قال ماكرون "إنه "نجح" في حمل ترمب على الإبقاء على القوات الأميركية في سوريا التي كان الأول يريد إعادتها إلى بلاده في "أسرع وقت"".

وأفاد ماكرون بأن باريس عملت على حصر الضربات العسكرية الثلاثية مع واشنطن ولندن، والابتعاد عن استفزاز روسيا وإيران، وجاء الرد سريعاً من البيت الأبيض لينفي ما أكده ماكرون، ومن وزارة الدفاع التي أفادت بأن القرار كان أميركيًا محضًا.

وفي أي حال، فإن مبادرات ماكرون في الملف السوري كانت بلا نتيجة عملية، فلا خطته إطلاق "مجموعة عمل" مشكلة من الدول الخمس دائمة العضوية في مجلس الأمن أينعت ثماراً، ولا اجتماعات "المجموعة الضيقة" المشكلة من الدول الغربية الثلاث (فرنسا وبريطانيا والولايات المتحدة)، تضاف إليها ألمانيا والسعودية والأردن، أفضت إلى نتيجة. والخلاصة، أن "مفتاح" الحرب في سوريا موجود بالأحرى لدى مجموعة آستانة (روسيا وإيران وتركيا)، في حين الورقة ربما الوحيدة التي يملكها الغربيون هي الوجود العسكري في شرق وشمال سوريا، الذي يمكن أن يكون مفيداً عند بدء البحث جدياً في صورة الحل النهائي في سوريا.

في اقترابه من ترامب، لم ينس ماكرون بوتين الذي فرش تحت قدميه السجاد الأحمر بعد أسبوعين من فوزه الرئاسي، حيث دعاه إلى قصر فرساي التاريخي نهاية آيار /مايو الماضي، وتوافق معه على العمل معاً بشأن الملفات الساخنة.

وكما في علاقته مع ترمب، فقد خطا ماكرون خطوات باتجاه الرئيس الروسي عندما تخلى عن شرط تنحي الأسد وجعل من "داعش" "عدو فرنسا، بينما الأسد عدو شعبه".

وواظب ماكرون على هذه السياسة، فاتصل ببوتين قبل الضربات العسكرية، وحرص على التأكيد له أنها تستهدف فقط المواقع الكيماوية للنظام، كما اتصل به بعد الضربة، وها هو يتأهب لزيارة روسيا يومي 24 و25 الحالي، لكن كما في العلاقات مع واشنطن، لم يحصل ماكرون على أي نتيجة تذكر في تعاطيه مع روسيا، رغم أنه يريد أن يظهر بمظهر القادر على لعب دور الوسيط بين الجبارين، بينما القادة الغربيون الآخرون غائبون.

وكان حلم ماكرون الأول لدى وصوله إلى الإليزيه، إعادة وضع الاتحاد الأوروبي على سكة الاندماج وطرح لذلك خطة طموحة نص على خطوطها العريضة برنامجه الانتخابي، وفصّلها في خطابين رئيسيين في جامعة السوربون في شهر أكتوبر /تشرين الأول الماضي والشهر الماضي في خطاب أمام البرلمان الأوروبي في ستراسبورغ. لكن الواقع الأليم يبيّن أنه الرغم من الجهود الكبيرة التي بذلتها الدبلوماسية الفرنسية، والتهليل الذي صاحب خطب ماكرون، لم يتحقق شيء ملموس حتى اليوم، بل إن ماكرون أغاظ بلدان أووربا الشرقية والوسطى ولم يلق التجاوب الكافي من ميركل.

وهكذا، فإن أول "إنجاز" خارجي لماكرون، وفق الاختصاصيين هو أنه "حسّن" صورة فرنسا في العالم وأعاد لها تألقها، إلا أن باريس بقيت غائبة عن الملف الفلسطيني ــ الإسرائيلي، باستثناء تعبير ماكرون عن "معارضته" مبادرات ترامب، وغير مؤثرة لا في الحرب العراقية ولا في أزمة الخليج والحرب في اليمن، ومع ذلك، فإن الدبلوماسية الفرنسية لا تفتقر للمبادرات، كالمؤتمر الذي نظم لدعم الاستثمار في لبنان ومساعدته في إرساء استقراره وسيادته، أو المؤتمر الدولي الخاص بمحاربة الإرهاب، في حين تحضّر باريس لمؤتمر عن الأوضاع الإنسانية في اليمن.