جزيرة جيجو

من المخيب للآمال دائماً أن يجد المرء نفسه عالقاً على قائمة انتظارٍ طويلة بهدف استخراج رخصة قيادة، خاصةً إذا كانت هناك جزيرةٌ يسودها مناخٌ شبه استوائي تقع على مرمى حجرٍ من بلاده، وتشكل فرصةً لتحقيق هذا الهدف على نحوٍ أسرع.

الحديث هنا عن جزيرة جيجو الكورية الجنوبية، التي تعد بمثابة جنة لراغبي قضاء العطلات. وتقع هذه الجزيرة البركانية الصغيرة على بعدٍ 100 ميل (نحو 160 كيلومتراً) تقريبا من الطرف الجنوبي الغربي لشبه الجزيرة الكورية.

وتحظى هذه المنطقة بشعبيةٍ خاصةٍ بين السائحين الصينيين، الذين بلغ عدد زوارها منهم منذ مطلع العام الجاري أكثر من 300 ألف.

ولا تقتصر قائمة ما يروق للسائحين الصينيين في جيجو على الشواطئ ومراكز التسوق وأماكن المقامرة، وإنما تشمل الآن رخص القيادة الصادرة هناك كذلك.

ويجعل الكثير من هؤلاء ذهابه إلى مركز استخراج الرخص هناك محوراً لعطلة كاملة.

ويستغرق الأمر من أولئك السائحين أياماً لملء الاستمارات الخاصة بالاختبارات وانتظار مواعيدها ومن ثم خوضها. وإذا ما حالفهم الحظ بالنجاح في الاختبار من المحاولة الأولى، فسيظل لديهم وقتٌ للاستمتاع بشواطئ الجزيرة.

على أي حال، هذه الحالة ليست فريدةً من نوعها. فالسفر إلى دولٍ أخرى من أجل قضاء عطلةٍ الهدف الرئيسي منها تحقيق غرضٍ عمليٍ ليس بالأمر الجديد.

فالناس الآن يسافرون عبر العالم بشكلٍ دوريٍ لأسباب مثل إجراء جراحة تجميل، أو تلقي علاجٍ لأمراض الخصوبة، أو نيل تدريبٍ مهنيٍ متخصصٍ، أو حتى لمشاهدة مباراة في كرة القدم.

وقد أدى ذلك إلى أن تكتسب بعض المدن صيتها بناءً على تخصصات يشتهر بها مهنيون يعيشون فيها.

فمدينة لوس ألغودونيس المكسيكية يمكن أن تُعرف بـ"مدينة الضرس" بالنسبة للأمريكيين الذين يقصدونها جواً لعلاج أسنانهم، أما مدينة "هوي أن" الفيتنامية فتشتهر بمن يعيشون فيها من خياطين يجيدون حياكة الملابس بالطلب لزبائنهم.

امتحانات نظرية وعملية

ومع أن "سياحة استخراج رخص القيادة" في جيجو هي ظاهرةٌ حديثة العهد، إلا أن الإقبال عليها ينمو بوتيرةٍ متسارعةٍ. فوفقاً للمركز الموجود في الجزيرة، بلغ عدد الصينيين الذين استخرجوا الرخص منه منذ بداية 2018 وحتى الآن 2172 صينياً بمتوسط 62 منهم أسبوعياً، وهو ما يمثل زيادةً كبيرةً مُقارنةً بما كان الحال عليه قبل سنوات.

ففي 2010 مثلاً لم يتجاوز عدد الصينيين الذين تمكنوا من تحقيق الهدف نفسه خلال العام بأكمله 68 شخصاً.

ومن بين عوامل التحفيز القوية التي تحدو بالصينيين للقيام بهذا النوع من "السياحة العملية" جودة الخدمة التي يحصلون عليها في جيجو والمميزات التي تنطوي عليها هذه الخطوة مُقارنةً بالتكاليف التي يتكبدونها لأجل القيام بها.

فبالنسبة للسائقين الصينيين المفعمين بالطموح في هذا المضمار، تؤتي الرحلة إلى هذه الجزيرة أُكلها على صعيديْن. فمن الناحية المالية، يشكل الذهاب إلى جيجو لاستخراج رخصة قيادةٍ خياراً جديراً بالتجربة إذا ما قورنت تكاليفه بما يكلفه التوجه للسبب نفسه إلى مدارس قيادة السيارات الموجودة في المدن الصينية الكبرى.

كما أن الحصول على الرخصة من تلك الجزيرة أسرع وأكثر راحةٍ كذلك.

وتقدم شركات السياحة والسفر الصينية عروضاً لقضاء عطلةٍ لمدة خمسة أيام في "هاواي كوريا الجنوبية"، بغرض الحصول على رخصة قيادة من هناك.

وتبدأ تكلفة البرامج السياحية المُقدمة في هذا الصدد من نحو 8800 يوان (ما يوازي 1280 دولاراً أمريكياً) وتشمل ترتيب مسألة استخراج الرخصة للمشاركين فيها بكل تفاصيلها، مع إدراج زياراتٍ لبضعة معالم سياحية كذلك.

ويغطي هذا السعر تكاليف الإقامة في الفندق والتنقلات والحصول على دورةٍ لتعليم القيادة، وكذلك رسوم إجراء الاختبار.

ولكنه لا يشمل تكاليف الوجبات والرحلة ذهاباً وإياباً. ورغم أن الأسعار المعروضة تجعل الأمر يبدو مكلفاً، إلا أن مقارنتها بتكاليف تلقي دوراتٍ مُميزةٍ في القيادة في بكين يمكن أن تغير هذه النظرة، فتكلفة الدورة التدريبية الواحدة في هذا الشأن - بهدف استخراج الرخصة - يمكن أن تتجاوز 15 ألف يوان (قرابة 2188 دولاراً).

كما أن استكمال الإجراءات والحصول على الرخصة قد يستغرق شهوراً في هذه الحالة.

ويستفيد الزوار الصينيون لجيجو من حقيقة أن بلادهم - مثل الكثير من دول العالم - تسمح بأن يتمكن السائقون الحاصلون على رخص قيادةٍ من بلدانٍ أجنبيةٍ من الاستفادة من ذلك بشكلٍ مشروطٍ، للحصول على رخصٍ محلية.

فبوسع كلٍ من هؤلاء تحويل رخصة قيادته الكورية الجنوبية إلى نظيرتها المحلية، بمجرد اجتيازه اختباراً نظرياً في هذا الصدد.

لكن ذلك ليس السبب الوحيد الذي يدفع السائحين الصينيين لاعتبار أن الحصول على الرخصة من كوريا الجنوبية يشكل خياراً أفضل بالنسبة لهم. فثمة عاملٌ آخر يلخصه لنا باقتضاب "مين تي لي"، وهو طالبٌ صينيٌ يساعد صديقاً له على تحديد موعدٍ لاختبار القيادة الذي سيخوضه في الطريق العام.

إذ يقول هذا الرجل: "اختبار القيادة الصيني صارمٌ للغاية، أما الكوري فهو سهل".

اللافت أن عملية الحصول على رخصة قيادة في كلا البلدين تشتمل على المراحل نفسها من فحوصٍ طبيةٍ واختباراتٍ نظريةٍ تحريريةٍ، وخوض اختبارٍ للقيادة في ساحةٍ مغلقةٍ مُخصصةٍ لعملية الاختبار، فضلاً عن إجراء اختبارٍ آخر في الطريق العام.

ولذا يمكن القول إن الاختبار في كوريا الجنوبية ليس بالضرورة سهلاً في حد ذاته، أو على الأقل لم يعد كذلك. ففي ديسمبر/ كانون الأول 2016، تم إدخال تعديلاتٍ على الاختبار وتحسينه بعد سنوات ظل فيها عرضةً لانتقادات ممن رأوه سهلاً بشكل أكثر من اللازم.

ووفقاً لما أوردته شبكة "أريرانغ نيوز" التليفزيونية الكورية الجنوبية، هوت نسبة النجاح في اختبار القيادة بداخل الساحات المغلقة في مراكز الاختبار بنسبة 60 في المئة عقب إدخال هذه التغييرات مباشرةً.
رغم ذلك ظل الاختبار الصيني أكثر صعوبة بصفةٍ خاصةٍ في بعض الجوانب. فالاختبار النظري التحريري يتألف - على سبيل المثال - من 100 سؤال، بينما لا يتضمن نظيره في كوريا الجنوبية سوى 40 فقط.

كما أن الوصول إلى نسبة النجاح المطلوبة في الصين أكثر صعوبة، فلا بد أن يحقق الراغب في نيل الرخصة 90 في المئة على الأقل من الدرجات لكي يحصل عليها، فيما تتسم كوريا الجنوبية بتسامحٍ أكبر إذ تتيح للحاصلين على نسبة 60 في المئة فقط الفرصة للظفر بالرخصة.

بجانب ذلك، تلعب الفترة التي يمكن خلالها استكمال عملية الحصول على الرخصة دوراً في المقارنة بين كوريا الجنوبية والصين في هذا الشأن. فنظراً لقلة عدد الخانات الشاغرة لاستيعاب الراغبين في خوض الاختبارات الخاصة بالحصول على رخصة القيادة والإقبال الكبير على ذلك داخل الصين، يمكن أن تستغرق كل مرحلةٍ من مراحل هذه العملية عدة أسابيع لاستكمالها.

كما أنه يتعين على من يفشلون مرتين في اجتياز أيٍ من هذه المراحل إعادة العملية كلها من البداية. أما في جيجو، فقد يتسنى في غالبية الأحيان للراغب في استخراج الرخصة استكمال مراحل متعددة من العملية المطلوبة لذلك خلال ساعات في يومٍ واحدٍ لا أكثر.

ويساعد في تسهيل هذه الإجراءات أصحاب الشركات السياحية التي تقدم عروضاً للأجانب الراغبين في زيارة الجزيرة الكورية الجنوبية للحصول على رخصة القيادة من هناك.

من بين هؤلاء، "تي كوي يي"، التي تتواصل مع مدرسة محلية لتعليم القيادة في جيجو لحجز أماكن لزبائن شركتها من السائحين، للحصول على فترة التدريب الإلزامية لسائقي السيارات الجدد في كوريا الجنوبية، والتي تبلغ مدتها 13 ساعةً.

وتتضمن هذه الفترة تدريباتٍ على القيادة تستغرق 4 ساعات، بجانب قيادة السيارة على الطريق لمدة 6 ساعاتٍ أخرى. وتقول هذه السيدة إنه لا يفشل سوى عددٍ محدودٍ للغاية ممن نالوا هذه الدورة التدريبية المكثفة في الحصول على الرخصة، مُشيرةً إلى أن "من بين 100 شخص، ربما يخفق شخصٌ واحد".

ولا تقتصر مميزات رخص القيادة التي تُمنح في كوريا الجنوبية على أنها سهلة المنال نسبياً فحسب، بل تمتد كذلك إلى كونها رخصة دولية قابلةً للاستخدام في دولٍ مختلفةٍ من العالم أيضاً.

وظهر هذا النوع من رخص القيادة الدولية بفضل سلسلةٍ من الاتفاقيات والمعاهدات المُبرمة في إطار الأمم المتحدة، في الفترة ما بين أربعينيات وستينيات القرن الماضي.

ونظراً لأن الصين لم تكن من بين الدول المشاركة في التوصل إلى هذه المعاهدات الأممية، لا تندرج رخصة القيادة الصينية في إطار الرخص المشمولة بمنظومة "رخصة القيادة الدولية" تلك، وذلك بخلاف نظيرتها الكورية الجنوبية، وهو ما يُكسب تلك الأخيرة قيمةً كبيرةً بالنسبة للمسافرين خارج أوطانهم.

وتقول "تي كوي يي" إن غالبية زبائنها من الصينيين المقيمين في دولٍ أخرى، وبينهم كثيرون يقيمون في المملكة المتحدة وإيطاليا على وجه التحديد. وهكذا فإذا ما تسنى لهؤلاء الحصول على رخصةٍ متوائمةٍ مع "رخصة القيادة الدولية"، سيكون بمقدورهم القيادة في الدول التي يقيمون فيها، بجانب أكثر من 150 دولةً أخرى.

علاوةً على ذلك، تلعب اللغة دوراً في إقبال الصينيين على السعي للحصول على رخصة قيادة من كوريا الجنوبية، كما تقول "تي كوي يي".

ففي جيجو، تُتاح الفرصة لتقديم الطلبات وإجراء الاختبارات التحريرية النظرية باللغة الصينية. كما أن الكثير من الموظفين في مركز الاختبار يعرفون المفردات الصينية ذات الصلة بالتفاصيل الخاصة بعملية التقديم والاختبار وما إلى ذلك.

ورغم أن هذا ليس بالأمر الغريب في عموم كوريا الجنوبية، في ضوء أنه يمكن فيها إجراء الاختبارات التحريرية باللغة الإنجليزية وملء استمارات التقديم بعددٍ لا يُحصى من اللغات، فإن جيجو تبقى مع ذلك الوجهة الرئيسية لـ"سياحة استخراج رخص القيادة" مُقارنةً بباقي مناطق البلاد، لسببٍ مُقنعٍ وقهريٍ في الوقت نفسه، ألا وهو أنها تعفي السائحين الصينيين من شرط الحصول على تأشيرة دخول، وهو ما لا يتوافر في المناطق الأخرى.

لذا لا تزال الصفوف طويلةً أمام مركز استخراج رخص القيادة في جيجو. لكن الجميع يقرون بأنه من الصعب أن ينافس مكانٌ آخر تلك الجزيرة، من حيث المقومات والمميزات التي تحظى بها على هذا الصعيد.

فزوارها لا يحصلون منها على رخصة قيادةٍ ساريةٍ ومعترفٍ بها دولياً فحسب، وإنما تسنح الفرصة كذلك لمن تكون له الأسبقية منهم في تحقيق هدفه بسرعة، لأن يجد شواطئ جيجو وحفلات الشواء التي تُقام في أنحائها في انتظاره قبل الرحيل.