بقلم : عبد المجيد طعام
1- يستقر " حي المنشار" على هضبة ممتدة بحواشي المدينة الكبيرة، " الحي " عبارة عن فضاء عشوائي مفتوح على كل الاحتمالات، تتكدس فيه ساكنة اختلفت أصولها و جنسياتها، استوطنه مهاجرون من القرى المجاورة، أولائك الذين طردهم الجوع و الفقر و الجفـــاف و الانتظار و الفراغ و البطالة، أولائك الذين فروا من بيئاتهم القروية القاسية وسكنوا بيوتا طينية و أخرى شبه إسمنتية لا تحفظ كرامتهم و لا تعترف بخصوصياتهم، كما استوطن الحي مهاجرون جاؤوا من دول جنوب الصحراء،من النيــجر و نيجيــــــريا و غامبـــــــيا و الكاميرون و مالي و تشاد … لازالت هضبة " حي المنشار" قادرة على استيعاب المزيد من المهاجرين من القرى المنسية و الدول الفقيرة…لازالت مفتوحة على كل الاحتمالات….
كل شيء في " حي المنشار" يخضع لمنطق العشوائية، لا مكان للنظام و الانتظام، المنازل لا تتماثل في تصاميمها…في علوها و عرضها… نوافذها مبعثرة…أبوابها قزديرية قديمة ….كل منازل حي المنشار ورشات مفتوحة، لا تنتهي بها الأشغال و الإصلاحات، الأزقة ضيقـة و كأن " الحاج المنشار " استعمل منشارا حقيقيا عندما فصل القطع الأرضية .
تعج أزقة " حي المنشار" بالأطفال، و يبدو أنهم هم أيضا يخضعون لقانون العشوائية، يستنسخون بشكل عشوائي، يكبرون ويلعبون بشكل عشوائي و يرسمون قدرا عشوائيا ، يجبرون على حمل عيون فيها الكثير من العنف و القليل من دموع الطفولة، لا يتوقف ضجيجهم اليومي إلا بعد أن يهدهم التعب فيستسلمون لنوم شقي بدون أحلام حقيقية.
الصمت هو لغة رجال الحي عكس النساء اللواتي يجتمعن في ساحات لم يصلها بعد البناء ليتكلمن عن أي شيء دون أن يقلن أصلا أي شيء، عيون الرجال تشع منها شرارة العنف مستعدة لتقترف الأفظع في أي وقت …….الشيوخ احتلوا مراكز استراتيجـية في مداخــــل و مخارج " الحي" ،حذقوا ســــر و تقنيات الملاحظة و برعوا في رصد ما يحدث وما يمكن أن يحدث ، عندما يشعرون بألم في أعناقهم بسبب تتبع حركة الخارج و الداخل من و إلى الحي ، يتبادلون حديثا مقتضبا حول الماضي ،حديث أشبه بآهات و تنهدات عن أيام الخير ،كل شيء تغير، حتى الفحولة أصابها الخزي و العار ….
لن ينس سكان حي " المنشار" فضل بناء المسجد عليهم، بات الفضاء الوحيد الذي يخلصهم من المراقبة، كان يجبر الشيوخ على ترك مراكزهم في مداخل و مخارج الحي وقت الإعلان عن كل صلاة و لن ينس سكان الحي كذلك النضال المرير الذي خاضه الشيوخ من أجل بنائه بالجهة الشرقية للهضبة، كان عليهم أن يتوسلوا " الحاج المنشار" كي يستعمل منشاره من جديد لاقتطاع بقعة أرضية تخصص لبيت الله، و كان عليهم أن يتوسلوه مرة أخرى ليعينهم على توفير بعض مواد البناء، فكان رحيما بهم و أعطاهم عشرين كيس إسمنت وسعة شاحنة من الرمل، لكنهم وجدوا في اقتراب موعد الانتخابات فرصة ذهبية لتوفير كل ما يلزم من أجل بناء المسجد، أدركوا ذلك جيدا عندما حج إلى حيهم أناس لم يتعودوا على رؤيتهم، نظروا إلى شكل لباسهم و عطورهم و سياراتهم و طريقة كلامهم باستغراب كبير، أولائك الغرباء جاؤوا ليوزعوا عليهم الوعود التي تؤجل دائما إلى انتخابات قادمة لكنهم أصروا هذه المرة أن يكون بناء المسجد على رأس لائحة الوعود ثم المدرسة و المستشفى و حدائق أين تهرب النساء من عنف الرجال و الحياة. لقد بكى بعض الغرباء أمامهم و أذرفوا دموعا غزيرة و التزموا أمام الله بأن يوفروا لهم الكهرباء و الماء و الواد الحار …. لم يهتم الشيوخ بسيل الوعود، لأنهم خبروا الغرباء فطالبوا بالمسجد فقط ، و كان لهم ما طلبوا، لكن المسجد لم يشذ عن قانون العشوائية، فكان هو أيضا عشوائــــيا و ظل ورشا مفتوحا و ورقة انتخابية تجلب السماسرة كلما اقترب موعد جديد لانتخابات لم يفهموا أبدا جدواها.
لا دلالة للزمن " بحي المنشار" ، الدقائق و الساعات و الأيام و الفصـــــول و الوعـــــود و الحملات الانتخابية تمضي و تمضي معها الحياة متشبثة بعشوائيتها، قد تتداخل الأشيـــاء و الفصول دون أن تتقاطع، قد تتوقف الدقائق و الأنفاس دون أن تتعطل الأيام ، الحياة تسير رتيبة شاحبة، كل واحد يبحث عن خلاصه الفردي، الشيوخ يبحثون عن خلاصهم في المسجد و في مراقبة مخارج و مداخل الحي، الرجال يبحثون عن خلاصهم في الصمــــت و في شرارة العنف المنبعثة من عيونهم ، النساء يبحثن عن خلاصهن في حديث لا يجدي و في فرار دائم إلى دواخلهن المنكسرة أما الأطفال فقد وجدوا خلاصهم في العنف الذي يمارسونه على أجسادهم …
2-
" السي لفقيه" أو " نعم أسي" كما يحلو للأطفال أن ينادوه تجاوز بقليل سن الأربعين ، قوي البنية تظهر عليه آثار نعمة الأكل، مهاجر وافد على الحي من إحدى القرى المجاورة للمدينة الكبيرة، يرتدي جلبابا أبيضا و يضع عمامة على رأسه و ينتعل بلغة صفراء، يعتني بلحيته اعتناء غير مفهوم، يصففها و يشذبها، فهي الشيء الوحيد الذي لا يخضع لنظام العشوائية بالحي .
يحظى "السي لفقيه" باحترام و تقدير سكان "حي المنشار" سواء كانوا من الوافدين من القرى المجاورة أم من الدول البعيدة الفقيرة ، يقوم بتنظيم كل مناسك العبادة، يؤم المصلين و يؤذن فيهم و يفصل بينهم و يفتي في أمور الدين و الدنيا و يفقه السكان في أمور العبادة حيث يخصص درسين خلال كل أسبوع، ليحدثــــهم في أمور الدين و يجيب عن أسئلتـــهم و استفساراتهم .
استحوذ " السي لفقيه" على ثقة سكان الحي، ادخلوه بيوتهم ، تقاسموا معه أكلـهم البســــيط و لم يمنعوا نساءهم و فتياتهم من حضور دروسه و طلب كراماته، خاصة و أنه كان يحدث النساء من وراء حجاب وفق ما تنص عليه الشريعة الإسلامية .
اختار في درس هذا الأسبوع أن يحدثهم عن علامات الإيمان التي يطمئن بها القلب و لا تخطئها العين، فعددها أمامهم و كانت الصلاة في وقتها أول هذه العلامات الإيمانية ثم عرج على التقوى و العفة و الإكثار من ذكر الله، خاطبهم بصوته القوي:" إذا اجتمعت هذه العلامات في شخص فقد استحق دمغة أهل الجنة و دخلها من أبوابها الثمانية بدون حساب " ارتسمت علامات استعصاء الفهم على وجوه الحاضرين و أحس " سي الفقيه" بضرورة الاستزادة فوجه أصبعه إلى وسط جبهته و صاح : " الدمغة ها هي موجودة على جبيني منحني الله إياها لأنني رجل مؤمن حظيت بشرف جمع كل علامات الإيمان .." لكنه سرعان ما انتبه إلى جبهة " الحاج المنشار" المتواجد ضمن الحاضرين بالصف الأول، فاستدرك الأمر و أشار بأصبعه :" انظروا إلى جبهة هذا الرجل التقي " الحاج المنشار" هو الآخر يحمل دمـــغة أهل الجنة، هبة من الله لنقائه و تقواه، بشرى له بالجنة…. بشرى له بالجنة .."
استرسل " السي الفقيه " في الحديث عن نعيم الجنة و ما ينتظر المبشرين بها،:" لكل واحد مئة امرأة من حور العين و ما أدراك ما حور العيــــن، يسهـــــرن على تلبــــية الطلـبات و الرغبات الجنسية التي لا يمكن أن تخطر على بال، أما إذا اشتهى أحد منكم غلمانا فله مئة غلام أبلق أمرد يفعل فيه ما شاء، ناهيك عن وديان من الخمر المعتق، لذته لا تساويـها لذة ، نشوته لا تساويها نشوة، و ستسكنون قصورا واسعة مصنوعة من ذهب و مرصعة بالبلور و المرجــان، تلبســـــون حريرا و تنامـــون على الحــــرير و تتوسدون الحرير، تأكلون أشهى الأطعمة و الفواكه".
عم الصمت و استولت على الحاضرين أحلام فردوسية، أسالت لعابهم حتى تدفق شلالا من أشداقهم، هناك من شرع في إلتهام الأكل اللذيذ وشرب الخمر المعتق و هناك من دخل قصره الفسيح و هناك من جمع حوله حور العين و هناك من استماله الغلمان………كل مؤمن تاه في سراديب حلمــــــه و استفاق على سؤال مستعص : كيف السبيل إلى دمغة أهل الجنة….. ؟؟
حضرت بعض نساء و فتيات الحي درس الأحلام الفردوسية و استيقظت فيهن الإحساسات الممنوعة و استفاقت في دواخلهن الرغبات المحرمة و اشتقن إلى خدمة أهل الجنة لعلها تنسيهن معاناتهن القاسية مع أزواجهن.
كانت سهام متواجدة بين الجالسات في الركن الضيق من المسجد وراء الحجاب، سهام فتاة في مقتبل العمر محجبة يفوح منها عبق الأنوثة، عيناها سهام أصابــــت قلوب كل رجـــال و شباب "الحي ". حينما أنهى"سي لفقيه" درسه الوعظي المليء بالشبق الجنسي، مكثت سهام في مكانها، لم تخرج مع النساء بقيت تنتظر أن ينسحب كل الحاضرين، و بصوت خافت من وراء الحجاب أثارت انتباه الفقيه حيث قالت:" سيدي الفقيه أريد أن أحدثك في أمر ضروري " لبى الفقيه الدعوة و سألها عن اسمها فوجده يوحي بضروب من العشق أما نبرة صوتها فقد أشعلت بداخله لهيب الرغبة، و في لحظة غير معلنة رفع الحجاب الذي كان يفصله عن سهام و كاد عطرها الأنثوي الطبيعي أن يسقطه أرضا ليلثم قدميها، تمالك نفسه و سألها :" في ماذا تريدين أن تحدثيني يا بنيتي " استجمعـت كل قواها و حكت له عن مغامرتــــــها الغراميــــة مع شاب أعجب بطـــهارتها و استقامتها فقرر أن يتزوج منها فور استقرار أوضاعه المالية. تكلمت سهام بعفوية طفولية و رقة و طرحت في الأخير على الفقيه سؤالا يؤرقها :" سيدي الفقيه لم اعد أعرف كيف أتصرف، هل هذه العلاقة حلال أم حرام ؟"
استعان الفقيه بالصمت برهة من الوقت ليخفي رغبته الجامحة في ملامسة وجهها الملائكي و تمرير يديــه على جسدها الذي يفيض أنوثة، بلع سيلا جارفا من لعابـــه المتدفــــــق من حواشي فمه و خاطبها باتزان متصنع : " اسمعي يا بنيتي أنت فتاة طاهرة نقية، لا تكوني فريسة لذئاب بشرية فانية تنهش جسدك، منحك الله جمالا ملائكيا لأنه اصطفاك بين كل فتيات و نساء " حي المنشار" لتكوني في خدمة أهل الجنة، أولائك الذين وضع الله على جباههم الدمغة الشريفة المنورة، ابشري يا بنيتي ستكونين ضمن صفوة حور العين بجنة الخلد، فلا تتركي أيادي البشر تدنس طهارتك و عفتك و تغير قدرك ."
استمعت سهام باهتمام كبير لما قاله الفقيه و أحست بنشوة روحية حلقت بها في الفضاء الواسع و عرجت بها إلى عوالم الجنة و الخلود ثم استفاقت من غيبوبتها و سألت الفقيه :" ماذا علي أن أفعل الآن ، هل أتخلى عن ذلك الشاب و أحفظ جسدي لأهل الجنة، أرشدني أرجوك أيها العالم الجليل " لم يتأخر الفقيه عن تقديم إرشاداته و توجيهاته لسهام و حثها على أن تتدرب منذ الآن على خدمة أهل الجنة المنعمين.
بعفوية ساذجة أومأت بحركة من رأسها معلنة أنها تقبل مصاحبة الفقيه التقي إلى غرفته المتواجدة أعلى المسجد، وأفصحت ببراءة الطفولة أنها تستعجل خدمة أهل الجنة أصحاب الدمغة الشريفـــــــــة و مستعدة لتلبية رغباتهم، لا تبغي الآن إلا رضا الله و بركة الفقيه .
دخلت الغرفة و لمحت في الركن المظلم زوجة الفقيه و قد استلقت على فراش بئيس، كان الفقيه دوما يردد أمام المصلين أن الله ابتلاه بزوجة عمياء صماء بكماء و هو راض بهذا الابتلاء و يعتبره امتحانا من الله أراد أن يختبر به مقدار قوة إيمانه ، فتقوت ثقة الناس فيه بل هناك من حسده على هذا الابتلاء.
قاد الفقيه سهام نحو الركن المضيء من الغرفة، أجلسها و جلس بجانبها، و سمح لكفيه أن ترسما تضاريس الجسد الأنثوي الطري، هاجت غرائزه البهيمية و قال لها : " الله يأمرك بأن تنزعي ثيابك، كما يأمرني بأن أنزع جلبابي و عمامتي ليختبر مدى استعدادك على خدمة أهل الجنة…ابشري بالجنة يا بنيتي…"
ما هي إلا لحٍظات حتى وجد نفسه أمام جسد ندي عار، يفعل فيه ما شاء باسم الإرادة الإلاهية، رغم اندفاعه و هيـــــجانه البهيمي حرص الفقيه على ألا يترك أي أثر للعنف الجنسي الذي مارسه على الجسد الطري، اشبع قسطا من حيوانيته ثم أمرها بان ترتدي ملابسها كما ارتدى هو الآخر ملابســــه و لم ينس العمامة و قال لها : "ابشري …ابشري …سيتهافت عليك أهل الجنة أصحاب الدمغة الشريفة …أنا راض عليك و الله راض عليـك و ملائكته كذلك إلى يوم الدين ، سيجعل منك الله سيدة حور العين، لا يمسك إلا مطهر مثلي…"
قبل مغادرتها الغرفة أوصاها :" لا تفشي سرك لأي أحد ، لقد انتقاك الله من بين سائر نساء الحي، الحسد يعمي البصائر يا بنيتي، احذري عمل الشياطين.." قبل خروجها من الغرفة وضع على جبينها قبلة هزت أركان غرائزه الحيوانية من جديد ومنحها بركة تقبيل الدمغة الشريفة التي وضعها الله على جبينه .
3-
استقر مسكن " المعطوب" قرب مسجد الحي، المسكن عبارة عن غرفة و مطبخ صـــغير و شبه مرحاض لا يحفظ الخصوصية الفردية ما دفع بفريدة إلى أن تضع على مدخله حجابا يستر بعضا من عورة الأسرة .
كان "المعطوب" و اسمه الحقيقي " عبد اللطيف" مياوما في مقاولة بناء، سقط من أعلى جدار فوجد نفسه معطوبا، مقعدا، يجتر أيامه و معاناته و لم تجد زوجته "فريدة" حلا سوى الخروج إلى العمل… رغم كفاحها المستميت بتر الأطباء الرجل اليمنى لزوجها بعد تعفنها…
ضاق العيش على الأسرة و لم يكن عمل "فريدة" كافيا للتغلب على الحاجة، كانت تحاول أن توفر أدنى شروط العيش لزوجها و ابنها "أيمن"، لم تتجاوز بعد الأربعين من عمرها صابرة على التحرش الجنسي و مشقة العمل بمقهى شعبي، كانت تقضي ساعات طويل في غسل الأواني و تحضير الشاي للزبائن و سماع سيل من كلمات وجمل الغزل، في كثير من الأحيان كانت ترتسم على ملامح وجهها علامات استغراب مما يلقى على أذنيها من كلمات تسعى إلى إثارة الغريزة الجنسية، لأنها تدرك أن جسدها لم يعد ذلك الجسد الذي يحرك الرغبة لدى الرجال، لقد أصابه الهزال وضمر صدرها و فشل جلبابها في رسم تضاريس نهدين غيبهما الحزن و التعب و الجوع ، كما لفحت الشمس وجهــــــــــها و خطت عليه تجاعيد غائرة… أحست أن كل شيء مات في هذا الجسد، نسيت اللذة الجنسية، لم تنم بجانب زوجها منذ سنوات طويلة. الحياة الصعبة برمجت عقلها ليستجيب للواجب فقط و يلغي أية رغبة ، لم يعد بمقدورها الإنجاب مرة أخرى فاكتفت بابنها " أيمن" و اعتبرت ذلك حكمة إلاهية لتستطيع تلبية احتياجات " المعطوب" و هي كثيرة تستلزم جهد الجسد و الجيب في نفس الوقت .
أصبح "أيمن" ابن العاشرة يقاسم أمه أعباء البيت، توقف عن الدراسة و أوكلت إليه مهمة السهر على راحة أبيه في غيابها، لكن بمجرد ما تصل " فريدة" إلى البيت، يخرج أيمن مسرعا في اتجاه المسجد، يجلس في الركن المواجه للمدخل يراقب الوافدين و ينظر إلى جباههم باحثا عن " دمغة أهل الجنة "، كان ينبهر كلما دخل الإمام " سي لفقيه" وقد ارتسمت على جبينه علامة دائرية لا تخطئها العين و كم تمنى أن يجد نفس العلامة مرسومة على جبين أبيه، فهو يدرك معاناته اليومية و يريد له الجنة ليعيش النعيم بين حور العين و الغلمان و وديان الخمر و العسل وجبال من الفواكه التي لم تعرف طريقها إلى مائدتهم منذ زمن لا يستطيع أن يتذكره .
كان " أيمن " يعيش في أغلب الأحيان أحلام يقظة، أحلامه تختلف عن باقي أحلام الأطفال ، أحلامه كانت تحلق في أجواء الجنة أين كان يرى أباه يمشي على رجليه، راسما على شفتيه ابتسامة روحية، وبجانبه أمه و قد تحولت إلى حور عين رائعة الجمال يتمناها كل أهل الجنة، لكن الألم كان يعتصره كلما عاد إلى الواقع لأن الله لم يمنح بعد أباه الدمغة المنشودة و حالته الصحية تسوء يوما بعد يــــوم، و قد يموت في أية لحظة، ولا شك أن مآله سيكون النار بما أنه لا يحمل تلك الدمغة الشريفة التي طالما تباهى بها "سي لفقيه" أمام كل المصلين.
بعد أن أدى "أيمن" صلاةّ المغرب و رفع يديه الصغيرتين إلى السماء متمتما بكلمات غير مفهومة، رجع إلى البيت، و اتجه إلى الركن الذي يستلقي فيه الأب " المعطوب" ألقى نظرة على الجبهة العزيزة، لا وجود للدمغة الشريفة لم يرسمها الله بعد … أحس بحزن عميق لكنه استغل دخول أبيه في ما يشبه الغيبوبة، لا يعرف هل هي من سكرات الموت أم مجرد نوم عميق، فاتجه نحو المطبخ وبعد برهة من الوقت، قاد يده نحو جبهة أبيـه و حط عليها ملعقة ملتهبة أحدثت حرقا دائريا غائرا، نظر إليه "أيمن" قبله قبلة فيها الكثير من الارتياح و همس في أذنه اليمنى :" الآن أصبحت يا أبي من أهل الجنة …تستطيع أن ترحل إلى قصرك هناك ….ستلتحق بك أمي قريبا…"