دمشق - سانا
من بين أكثر من 80 قلعة وحصنا أثريا تنتشر على مختلف البقاع السورية تحتضن محافظة طرطوس وحدها 14 منها نظرا لأن هذه البقعة تعرضت على مر العصور لغزوات خارجية عديدة فكانت حصن الدفاع الأول عن سورية بوجه الطامعين.
ووسط هذه القلاع التي تنتشر في المدينة وريفها تشمخ قلعة المرقب الواقعة على بعد 5 كم شرق مدينة بانياس والتي اعتبرها الباحثون الأثريون إحدى أهم القلاع التي بنيت في العصور الوسطى في العالم بأسره كما صنفتها منظمة الأمم المتحدة للتربية والثقافة والعلوم اليونيسكو قلعة تاريخية مهمة لاحتوائها على تراث إنساني عظيم وسجلت على اللائحة التوجيهية لليونيسكو.
وحسب تقرير أعدته دائرة آثار طرطوس يعود بناء القلعة للسكان المحليين للمنطقة سنة 1062 لتقع تحت الاحتلال البيزنطي عام 1104 لفترة قصيرة ثم كانت هدفا دائما للحملات الصليبية التي اجتاحت الساحل الشامي وتتالت عمليات احتلالها واسترجاعها حتى استردت نهائيا على يد السلطان المملوكي المنصور قلاوون في أيار 1285.
وبعد استرداد المرقب صرفت مبالغ كبيرة لإعادة تحصينها فظهرت عليها بعض الإضافات الجميلة ولكن بعد الطرد الكامل للصليبيين من المنطقة بدأت تفقد أهميتها وانعكس تضاؤل دورها في الفترة المملوكية والعثمانية على انخفاض التحسينات المعمارية على بنيانها.
وإضافة إلى تضاؤل أهميتها العسكرية شكلت الزلازل عاملا كبيرا أثر على بناء القلعة والتي وقعت خلال أعوام 1202 و1404 و1752 و1759 و 1796و1822 والتي سببت ضررا بالغا في بنيانها.
ووصف أحد الرحالة الاجانب القلعة التي زارها في القرن التاسع عشر بقوله.. “المرقب أشبه بمدينة فريدة من نوعها تقع على صخرة كبيرة مشرفة على كل ما حولها يمكن الوصول إليها في حالة النجدة ولا يمكن الوصول إليها أثناء القتال إلا النسر والصقر وحدهما يمكنهما التحليق فوق أسوارها”.
عرفت قلعة المرقب من قبل اللاتين باسم مارغت وعند البيزنطيين مارغوتوم وأطلق عليها العرب اسم قلعة المرقب حيث يقول ياقوت الحموي في معجم البلدان.. “المرقب بالفتح ثم السكون ثم بالقاف المفتوحة هو اسم الموقع الذي يرقب منه”.
وشكلها المعماري عبارة عن مثلث مساحته نحو 60000 م2 تتجه زاويته الحادة نحو الجنوب ويندمج حرفه مع الصخور المشكلة لجبل الأنصارية والتي كانت نقطة ضعف الموقع في الجهة الجنوبية والسبب في زيادة التحصين عند هذه الزاوية الدائرية لصد الهجمات المتوقعة من ذلك الاتجاه.
تتألف القلعة من سور مزدوج أحدهما خارجي والآخر داخلي لزيادة تحصين القلعة ومناعتها إضافة إلى القلعة الخارجية التي تشمل الأبنية السكنية والقلعة الداخلية التي تتضمن مجموعة الأبنية الدفاعية المحصنة بأبراج دائرية ومستطيلة يعلوها البرج الرئيسي والتي تسيطر على مساحة واسعة تمتد إلى كل الجهات زودت بمرامي السهام والحجارة ويحيط بالسور الخارجي من الشرق خندق عميق محفور في الطبقة الصخرية.
أما القلعة الداخلية فهي عبارة عن بناء مستطيل الشكل تقريبا لها حلقتان من الأسوار تقع على الذروة الجنوبية للقلعة ويفصلها عن القلعة الخارجية قناة مائية عريضة في الجهة الشمالية من الحصن الداخلي.
يتم الدخول إلى القلعة عبر برج البوابة الرئيسي والذي يمكن الوصول من خلاله إلى الحصن الداخلي مشكلا صلة وصل بين السوريين الداخلي والخارجي أما قاعات القلعة فموزعة في ابراجها ومن منشآتها مسجدها الذي بني بعد استرجاعها من الفرنج إضافة إلى وجود العديد من الاصطبلات والمخازن والمستوعادت المنفصلة وغيرها وأما الكنيسة وهي أكثر الأبنية ارتفاعا بين الأبنية المحيطة بالساحة الرئيسية وهو بناء موجه باتجاه شرق غرب وبشكل طولاني كما هي معظم الكنائس ومخططها شبيه بمخطط كنائس جنوب فرنسا في القرن الحادي عشر ويمكن أن نعيد بناء الكنيسة للربع الأخير من القرن الثاني عشر .
وأما البرج الرئيسي وهو أهم بناء في القلعة ويعد نموذجا مثاليا للأبراج الدائرية التي أقيمت في القرن الثالث عشر حيث يبلغ قطره 21 مترا تقريبا مكون من طابقين مع متراس دفاعي .. والفخامة التي يتمتع بها هذا البرج من حيث الارتفاع والقطر وسماكة الجدران المجهزة تؤكد أن هذا البناء كان على الأغلب مخصصا لقائد حامية القلعة .
ونظرا لأهمية القلعة تراثيا وطبيعيا فقد أدرجت على قائمة مشروع اليورميد التابع لاتحاد دول اليورميد وهي إسبانيا واليونان وسورية والبرتغال والجزائر ومصر بهدف توثيق التراث الدفاعي لدول البحر الأبيض المتوسط والمحافظة على القيمة الاقتصادية والحضارية للمواقع الدفاعية المطلة على مسطحات مائية.
وقامت المديرية العامة للآثار والمتاحف بتنفيذ العديد من مشاريع الترميم والحماية منذ استملاك القلعة عام 1959 م وتسجيلها أثريا على لائحة التراث الوطني حيث ركزت هذه المشاريع في البداية على معالجة المشاكل الإنشائية وترميم المناطق الخطرة والمهددة للسلامة العامة وترميم وإغلاق الفتحات الخارجية للقلعة ونكش فواصل وتكحيل جدران بالإضافة إلى عزل أسطح المباني للحد من تأثير العوامل الجوية عليها.
كما تم تأمين مسارات الحركة والزيارة من خلال تنفيذ حواجز حماية وتهذيب المسارات وتنفيذ تباليط حجرية للممرات وإعادة بناء الأدراج الحجرية وتأهيلها للزوار وترميم مرامي السهام وتنفيذ أعمال حفر وترحيل ردميات ترابية ضمن مباني القلعة وذلك للوصول إلى السويات الأثرية واعتمادها في أعمال الترميم والتأهيل وإزالة الأشجار والأعشاب الضارة.
كما نفذ عامي 2005و 2007م وعلى مرحلتين بقيمة تقريبية عشرين مليون ليرة سورية مشروع تأهيل وترميم تضمنت المرحلة الأولى منه إنجاز المخطط التوجيهي لقلعة المرقب مع كل الدراسات المتعلقة بالموقع ومنها الدراسات المتعلقة بالناحية المعمارية -الطبوغرافية – التاريخية – الجيولوجية- الجيوفيزيائية – المناخية وتقديم المخططات اللازمة لهذه الدراسات مع حلول تدعيمية لأربعة مباني خطرة إنشائياً ضمن القلعة.
أما المرحلة الثانية تضمنت ترميم أحد المباني في القلعة وهو مبنى السرادق الشرقي حيث نفذ تدعيم مؤقت لسقف المبنى وإعادة بناء الواجهة الحجرية الجنوبية و الشرقية و تغطية مؤقتة للسويات الأثرية على السطح وتنفيذ عزل مع صبات ميول .
ركزت أعمال التنقيب في القلعة التي جرت في عام 2002 من قبل بعثة وطنية من دائرة اثار طرطوس على سطح برج البوابة الداخلي حيث توقفت أعمال التنقيب فيها حتى عام 2007 تلا ذلك تشكيل بعثة سورية هنغارية مشتركة مهمتها القيام بأعمال سبر وتنقيب انطلاقا من أهميتها التاريخية.
ومن الأهداف المهمة للبعثة تقديم القلعة بالصورة الأكمل من الناحيتين الثقافية والعلمية بعد تحديد ماهية ووظيفة كل الفراغات في القلعة ليصار إلى إعادة توظيفها واستثمارها بما يخدم الحركة الثقافية في المنطقة وإتاحة الفرصة لتدريب الطلاب السوريين والهنغاريين على العمل في مختلف الميادين.
ولا يمكن للمسافر القادم من اللاذقية أو من طرطوس مهما كان على عجلة من أمره إلا أن يتوقف مندهشا حين يصل إلى مشارف مدينة بانياس الساحل ليشاهد بين سلسلة الجبال المشرفة على البحر جبلا مغطى بالغابات والخضرة تنتصب فوقه قلعة ضخمة بشكل مدهش هي قلعة المرقب أميرة حصون وقلاع الساحل السوري.