القاهرة-صوت الامارات
خالد محمد خالد يعتبر مؤرخًا عتيدًا عندما يردد: "لن تصاب أمة برذيلة تنهش روحها وتجرف مصيرها مثل رذيلة الانفصال عن التاريخ".. وفيلسوف وحكيم حين يقول "علينا أن نولّى وجهنا شطر المستقبل، والدين في يميننا والمدنية في شمالنا" .. وداعية مخضرم عندما يعلن أن "احترام المدنية لا يعني الافتتان بما يخالطها من زيف وزور".. ومن دعاة الديمقراطية والحريات والمدنية وهو يؤكد أن احترام الدين لا يعني احترام الخرافات التي ألقتها عليه الأغراض والفتن عبر القرون.. ومفكر مستنير وهو يؤمن بأن السمع والطاعة السلبية تعني غلبة غريزة القطيع على صوت الإلهام والعقل، حيث ينسلخ المجتمع فيها عن إرادته ومشيئته بل عن ذاته".. وصوفي زاهد حين يقول: "إن الصدق يحمى نفسه، ويؤكد نفوذه، وهذه أوضح سماته، وأعظم ميزاته والثرثرة تشكل خطرًا على فضيلة الصدق، لأنها تستدرج صاحبها إلى مزالق يفقد فيها توازنه وثباته وصدقه.. وعالم موسوعي وهو يؤكد أن الإسلام لم يأتِ ليعلمنا أخلاق الصوامع، بل ليعلمنا أخلاق المدينة.. وناقد لاذع حين يقول إن الشائعة هي العادة السرية للمجتمع المضطهد.
وُلد يوم الثلاثاء 27 رمضان سنة 1339هـ الموافق 15 يونيو سنة 1920م ، في قرية العدوة بمحافظة الشرقية، والتحق في طفولته بكتاب القرية، فأمضى به بضع سنوات، حفظ أثناءها قدرًا من القرآن، وتعلم القراءة والكتابة، ولما عقد والده الشيخ محمد خالد عزمه على أن يلحقه بالأزهر الشريف، حمله إلى القاهرة، وعهد به إلى ابنه الأكبر “الشيخ حسين” ليتولى تحفيظه القرآن كاملاً، وكان ذلك هو شرط الالتحاق بالأزهر في ذلك الوقت.. أتم حفظ القرآن كله في وقت قياسى وهو خمسة أشهر – كما بين ذلك مفصلاً في مذكراته “قصتى مع الحياة” – ثم التحق بالأزهر في سن مبكرة، وظل يدرس فيه حتى تخرج ونال الشهادة العالية من كلية الشريعة سنة 1364هـ – 1945م، وكان آنذاك زوجاً وأباً لاثنين. عمل بالتدريس بعد التخرج في الأزهر عدة سنوات حتى تركه نهائياً سنة 1954م، حيث عين في وزارة الثقافة كمستشار للنشر، ثم ترك الوظائف نهائياً بالخروج الاختياري على المعاش عام 1976.
يعد خالد محمد خالد واحدًا من أهم المفكرين المصريين في النصف الثاني من القرن العشرين، عاصر مرحلة الإقطاع في الريف المصري، وخاض غمار الحياة السياسية المصرية في مرحلة ما قبل ثورة يوليو 1952 وما بعدها، وكانت له علاقات ومحاورات مع كبار المفكرين والسياسيين في تلك الفترة مثل النقراشى باشا والزعيم جمال عبدالناصر، تخرج في الأزهر وآمن بالديمقراطية فجمع بين علم الدين وفكر السياسة وسخرهما في خدمة الوطن.
تميز فكر خالد بالانفتاح على الآخر المختلف سواء كان الاختلاف سياسيًا أو دينيًا أو اجتماعيًا، لأن ساحة الحرية يمكن أن تتسع للجميع. كان يؤمن بأهمية المرأة ودورها في المجتمع، ويصفها بأنها (الرئة المعطلة) التي يفقد المجتمع نصف طاقته بتركها عاطلة. ويؤمن بالديمقراطية كفكر سيأسى قادر على إتاحة الفرصة للجميع للعمل معًا برغم الاختلاف متوخين المصلحة العليا للوطن.
لذلك كان ينادى بالتسامح والتعايش بين جميع طوائف المجتمع، بل كان مثله الأعلى في الخطابة مكرم باشا عبيد والقمص سرجيوس خطيب ثورة 1919، وبالتالي كان يرفض العنف أيًا كان سببه وذرائعه، ويرفض بشدة العنف المتشح بزى الدين، وكان من أوائل من حاولوا لفت نظر حسن البنا إلى خطورة التنظيم السرى المسلح للإخوان غير أن حسن البنا لم يستجب له، ولم يناقشه لأنه لم يكن إخوانيًا.
فصل الدين عن الدولة
“من هنا نبدأ”، كان أول كتاب خُطَّ عليه اسم “خالد محمد خالد” في مارس 1950، مُحدثًا ضجة في الأوساط الإسلامية، لتضمنه أفكارًا، تدعو إلى فصل الدين عن الدولة، ما تسبب في تعميق الشرخ بينه وبين جماعة الإخوان التي اختلف عنها فكريًا كثيرًا، على الرغم من نشأته الدينية، وتخرجه في قسم الشريعة جامعة الأزهر، ورغم الحصار الذى فُرض على أولى مخطوطات تفكيره محليًا، فإنه تسبب في ذيوع شهرته في مصر وخارجها أيضاً بشكل سريع. وطبع “من هنا نبدأ” ست طبعات في سنتين، وترجم في نفس السنة التي صدر فيها إلى الإنجليزية في أمريكا، وكتبت عنه عدة رسائل وأبحاث جامعية ومقالات في أنحاء متفرقة من أوروبا وأمريكا، وهو ما جعله يتعمق في فكرته أكثر، ليوضح أن الجمع بين “الحداثة والإسلام”، هو المنحى الرئيسي والذى استقر عليه “موسيقار الأفكار” كما أطلق عليه الكاتب الصحفي رجاء النقاش، وأضحى “خالد” من المفكرين القلائل المعاصرين، الذين تركو تراثًا هائلًا من الفكر الإسلامي المستنير، تربى عليه أجيال من أبناء هذه الأمة، فكان خالد بشخصيته وفكره وعطاءاته الكثيرة دعوة حارة ومتجددة في الحياة الشريفة المرتبطة بقيم الإسلام، ومنغمسًا في الفكر السياسي ما جعل الزعيم الراحل جمال عبدالناصر يحرص على قراءة كتاباته منذ كان ضابطًا، ويشجع زملاءه في حركة الضباط الأحرار على قراءتها، بل يشتريها لهم على نفقته الخاصة للاستفادة منها.
لم تنته علاقة “عبدالناصر” بالكاتب المستنير عند حدود الوصول إلى السلطة، فذكر خالد، في مذكراته، أنه كان يرسل كل كتاب يصدره إلى عبد الناصر بالبريد المسجل، وعندما أراد محافظ القاهرة صلاح دسوقي إهداء كتابه “بين يدى عمر” إلى الرئيس، وجد على مكتب الأخير النسخة، التي أرسلت بالبريد فقال له عبدالناصر إنه سيقرأ الكتاب مرتين.
المبادئ والأفكار
المبادئ لا تتغير كالأفكار.. كان ذلك الطريق الذى سلكه “خالد” طوال حياته حتى مماته في 29 فبراير 1996، فعلى الرغم من إعجاب الضباط الأحرار بكتاباته حتى بعد توليهم للسلطة، رفض أن يستمر في مهاجمة جماعة الإخوان بعد أن زُج بهم في السجون في عهد عبدالناصر، معتبرًا الهجوم على مَن لا يستطيع الدفاع عن نفسه ليس من شيم الكبار.
لخالد محمد خالد مؤلفات عديدة أشهرها “رجال حول الرسول” وهو كتاب يتناول صورًا سريعة لحياة نفر من أصحاب النبي محمد صلى الله عليه وسلم من منظور إسلامي يتناول التغييرات والتحولات التي طرأت على هذه الشخصيات بدخولها الإسلام والسمة المميزة لكل منهم ومن مؤلفاته أيضًا “وجاء أبوبكر”، “بين يدى عمر”، “وداعا عثمان”، “في رحاب على”، “معجزة الإسلام عمر بن عبدالعزيز”، “أبناء الرسول في كربلاء” و”والموعد الله” و”لقاء مع الرسول” و”كما تحدث الرسول”.
ومن مؤلفاته السياسية، “الديمقراطية أبدًا” و”دفاع عن الديمقراطية” و”لو شهدت حوارهم لقلت”، والأخير ذكر فيه رأيه في الحكام الثلاثة الذين عاصرهم وهم عبدالناصر والسادات ومبارك.. أما عن عادته في الكتابة، فإنه لم يكن يجلس للكتابة إلا إذا استشعر الحاجة الملحة لذلك وتكون الفكرة التي يريد الكتابة عنها قد نضجت، وطلبت الظهور، حينئذ يجلس في أي مكان، وفي أي ظروف ويبدأ في الكتابة دون أن يلتفت لما حوله أو ينشغل به... وقد تمضى – أحياناً – من حياته سنوات دون أن يكتب فيها شيئاً لأنه لم يجد ما يهيج في نفسه الدافع للكتابة، وقد اتسمت كتاباته بأسلوب رشيق، وقدرة على التعبير والغوص إلى جوهر الأشياء، وكان كثيراً ما يسأل عن السر في جمال أسلوبه فكان يقول: “إن الأسلوب في الكتابة لا يصنعه شيء إلا رب العالمين”.