أبوظبي - صوت الإمارات
ربما يكون التجريب والاختبار - في العلوم الإنسانية بعامة - هما أهم الوسائل وأسرعها لتحصيل المعرفة، لأن المعرفة بطبيعتها غير منتهية، أي أنها متجددة على الدوام، ولا تعرف الثبات، ذلك لأن الثبات موات، هذا هو منطق الحياة، كما يقول المناطقة أو أهل الفلسفة .
تزداد أهمية التجريب في حقلي الآداب والفنون، باعتبارهما تعبيرا عن حالات شعورية وجدانية بالدرجة الأولى، تكون في الأغلب مشتركة في حدود المنظومات القيمية، الناظمة للأنساق الذهنية الحاكمة في الوعي الاجتماعي الجمعي، وتكون في الوقت نفسه، ذات خصوصية فردية على المستويات المعرفية، الفنية والجمالية أو صناعة المسرة، وهي وظائف تقوم بها الآداب والفنون، في إطار مراجعتها الدائمة للأنساق الذهنية ونقد المسلمات أو "التابوهات" الثقافية، بغرض تشذيبها وتصويبها أو نقضها، ضمن سياق مواجهة الآداب والفنون المستمرة لكل أشكال العسف والقبح، بحثاً عن المزيد من الأنسنة أو الموآنسة والشراكة في عمارة الأرض، أي الارتقاء بالسلوك الإنساني إلى مستوى إنسانيته، التي تختزل معنى الحياة بأبهى وأجمل صورها الممكنة، ضد معاني التوحش والتغول والخراب والدمار أو الموت والفناء .
ومع ذلك يقتضي التجريب الروائي أولويات، من أهمها أن يكون الكاتب متمكناً من أدواته، وفي مقدمة هذه الأدوات اللغة، ليس على مستوى النحو والإعراب فقط، وإنما على مستوى الدراية بفقه اللغة والقدرة على الاشتقاق وتوليد المعاني الجديدة، وهذه المسائل ليست ممكنة إن لم تكن للكاتب معرفة بميزان الصرف وجذور المفردات ولو بالحد الأدنى .
والأمر الثاني أن يتمتع الكاتب بمخزون واسع، وأن يتميز بإلمام عميق ليس بثقافته وحسب، وإنما بالثقافات الأخرى أيضا، لأن الشرط الإبداعي في النص، يجب بالضرورة أن يصب في المشترك الإنساني، فيغني الآخر ويغتني به تفاعلا وانفعالا . وثالثاً أن يكون المُجَربُ متمكنا من المُجَربِ، بمعنى أن يكون الكاتب على دراية وخبرة عميقة بخبايا الجنس الأدبي الذي يكتب به على كل المستويات الإبداعية .
هذه المقاربة ضرورية للغاية، بل ملحة، قبل الإطلالة على الرواية الإماراتية الجديدة، التي تتمظهر فيها جرأة ملحوظة على التجريب، بخاصة منها ما صدر خلال السنوات الثلاث الأخيرة . وهي تجارب تبدو متسرعة، وتكشف بمعظمها عن قصور في إدارك معادلة الكتابة الإبداعية وعدم نضج التجربة أو اختمارها، هذا فضلاً عن عدم الإلمام بالمواصفات الفنية للعبة الروائية، ناهيك عن وظائف التجريب الروائي في قدرة الشخصية الروائية الأنا التجريبية على اختبار المقولات (المُسَلمات أو التابوهات) أو الموضوعات الوجودية الكبرى .
طبعا هذا لا يعني أن جميع التجارب الروائية الإماراتية الجديدة تتساوى في هذا الأمر، بل المؤكد أن هناك تجارب لافتة وتستحق التوقف عندها، بالرغم من بعض الملاحظات التي يمكن أن تسجل عليها، وبعضها تصيب التجريب الفذ بمقاتل في الأغلب الأعم، ومنها رواية "ليلة غاشية - قصة ساحر" للكاتب عبيد إبراهيم بوملحة، التي يبذل فيها جهداَ ملحوظاَ، سواء على مستوى انشغاله باللغة العربية، الذي يعد من أقل الدلالات عليه، تشكيل النص بمجمله، أم على مستوى الأسلوب، خصوصاً لجهة التوليف المشهدي، أو التقطيع الحدثي المنسجم في سياقات السرد المضطرد أو السرد المرسل، القريب نسبيا من سرد الليالي في الحكايات الشهرازدية، المطرزة بالسجع الأنيق الذي يعزز المعنى ويُنَغِمُ الإيقاع بما يمتع الأسماع .
تدور فضاءات " ليلة غاشية " في عوالم مؤسطرة أقرب إلى الغرائبية، ويمثل العنوان إحدى عتباتها الكاشفة بقوة، كون أحداث الرواية تدور في ليلة واحدة، هي أشبه بليلة القيامة بالنسبة إلى نايف (بطل الرواية)، الذي لم يكن على وسامة كافية لجذب النساء، فلجأ إلى السحر الأسود لتحقيق نزواته وإشباع رغباته الفائضة، ما أدى انغماسه بالحرام إلى حرمانه من الذرية على مدى سبعة أعوام من الزواج، ولم يفلح معه كل أنواع العلاج الحديث أو الشعبي، حتى قرر التوبة، وسافر إلى بلاد الحرمين للتطهر من خطاياه، وهناك اخضر بستان الزوجة وفاضت ثمراته بالولد، فأوفى بنذوره وعباداته، وعاد ينعم بمسرات الخلف، إلا أن الجنية المغرمة به، التي كانت تتجسد له بصورة النساء اللواتي يتمناهن قررت الانتقام منه، فتلبست الولد وراحت تستل روحه بين يدي أبيه، فعاد نايف إلى السحر الأسود في محاولة أخيرة لإنقاذ ولده ولكن من دون جدوى . وعندما اكتشفت الزوجة حقيقته كساحر أسهم في قتل وحيدها أصيبت بالشلل، ما دفعها إلى هجرانه للأبد، فلاذ بهذيانه، حتى النهاية المرة في عزلة لايضاهيها بمرارتها سوى الموت عينه .