بلورات "الزركون"

عند العودة إلى تاريخ الأرض في مهدها نجد أن المعلومات المتوافرة عن صورتها تقول إن سطحها كان مغلفا بمحيطات من الصهارة (الماجما) على فترة امتدت إلى نحو 500 مليون سنة ولكن من خلال تحليل النظائر المشعة لبعض العناصر المعدنية القديمة جداً، وجد علماء الجيولوجيا أن تاريخ تشكل الأرض لم يكن صائباً ولا بد من إعادة كتابته من جديد . ويرى العلماء أن الأرض في بداية تشكلها قبل 5 .4 بليون سنة، كانت حتى عمق 1000 كم بدءا من السطح مغطاة بمحيطات من الصهارة المتوهجة الصفراء - البرتقالية اللون، التي كانت تزداد بفعل التصادمات المتكررة للنيازك الهائلة، التي وصل حجم بعضها إلى حجم الكواكب الصغيرة، ونجم عن تصادم كل هذه الأجسام بسرعة تبلغ في المتوسط 75 مرة سرعة الصوت، حروقا في سطحها كما نجم عن ذلك تشكل القمر .

كان لابد لهذه الظروف الجهنمية أن تخبو قبل أن تتصلب الصخور المنصهرة لتشكل القشرة الأرضية، وقبل أن تتكوّن القارات، وقبل أن يتحول الغلاف الجوي الكثيف المشبع ببخار الماء إلى ماء سائل، وقبل أن تنشأ الحياة البدائية الأولى وتتمكن من البقاء . وكان معظم العلماء يعتقدون أن البيئة الجهنمية استمرت على مدى 500 مليون عام، وهي ما يعرف باسم حقبة "الهاديان" Hadean التي ذكرها للمرة الأولى الأمريكي بريستون كلود في العام 1972 . ويأتي الدعم الأساسي لهذا الرأي استناداً إلى الغياب الظاهري لصخور سليمة (بقيت على حالها الأصلية) ويتجاوز عمرها أربعة مليارات سنة، وكذلك استناداً إلى عمر أولى الإشارات عن الحياة الأحفورية التي هي أحدث من ذلك بكثير .

 وعثر جيولوجيون من جامعة وسكونسين بماديسون بالولايات المتحدة في العام 2001 على بلورات الزركون القديمة التي يرجع تاريخ تشكلها إلى 4 .4 مليار سنة والتي تتميز بتراكيب كيميائية أسهمت في تغيير آراء العلماء عن بداية تشكل كوكب الأرض . ويرى الباحثون أن الخصائص غير العادية لهذه المعادن المقاومة تمكّن بلوراتها من أن تحتفظ، بصورة مدهشة، بإشارات قوية عن حالة البيئة في أثناء تكونها . وهي إن شئنا القول بمثابة الكبسولات الزمنية التي توفر للباحثين أدلة على أن حقبة الهاديانب امتدت إلى 150 مليون سنة فقط وليس 500 مليون عام وهو الذي اعتمد سابقاً .

حاول العلماء تقدير سرعة برودة الأرض، في ذلك الجو المتوهج في بداية ظهور المحيطات حين كانت درجات حرارة تتجاوز 1000 درجة مئوية، ورأى بعض هؤلاء من خلال حسابات تيرموديناميكية أن الأرض البدائية كانت ذات مناخ أكثر اعتدالاً، وأن سطح القشرة ربما تصلب خلال عشرة ملايين سنة . وأثناء عملية التصلب عزلت الصخور المتماسكة متزايدة السماكة محيطه الخارجي عن محيطه الداخلي حيث تسود درجات حرارة مرتفعة . فإذا كانت الأرض مرت بفترات هادئة بين الاصطدامات الكبرى للنيازك، وإذا كانت قشرة الأرض استقرت، وإذا كان الجو البدائي الحار لم يحبس كميات كبيرة من الحرارة، فكان بالإمكان حينئذ أن تنخفض حرارة السطح بسرعة إلى ما دون درجة غليان الماء . خصوصاً أن الشمس البدائية كانت باهتة وتصدر طاقة منخفضة نسبياً .
وفي الثمانينات من القرن العشرين، بدأ الحديث يكثر عن بلورات عنصر الزركون النادرة التي وجدت في منطقة جاك هيلز Jack Hills وماونت ناريار Mount Narryer بغرب أستراليا وهي أقدم المواد الأرضية المعروفة حينذاك، إلا أن المعلومات التي حملتها هذه البلورات بدت غامضة . ويعود ذلك جزئياً إلى عدم تأكد الجيولوجيين من طبيعة الصخرة الأم التي تكونت فيها . فعند تكوّنها، كانت بلورات الزركون شديدة المقاومة إلى درجة أنها تمكنت من البقاء حتى بعد تكشف صخرتها الأم على سطح الأرض ودمارها . واستطاعت المياه والرياح بعد ذلك نقلها إلى مسافات بعيدة قبل أن تندمج في رواسب من الرمال والحصى لتتصلب بعد ذلك إلى صخور رسوبية . وعُثر فعلاً على بلورات زركون جاك هيلز، التي يفصلها آلاف الكيلومترات عن مصدرها في حاجز حصوي قديم يطلق عليه اسم تكتلات جاك هيلز .
ومنذ العام 1999 أتاح التقدم التقني إجراء دراسة إضافية لبلورات الزركون القديمة في غرب أستراليا، متحدياً الرأي التقليدي بشأن بداية تاريخ الأرض الجهنمي .

والواقع أن البلورات الأسترالية لم تفش أسرارها بسهولة ويرجع ذلك أولاً إلى كون منطقة جاك هيلز والمناطق المجاورة قفاراً مغبرة واقعة بالقرب من مراعي أغنام شاسعة تدعي بيرينكارا وميليورا وتوجدان على بُعْد نحو 800 كيلومتر شمال بيرث، وهي أكثر المدن الأسترالية انعزالاً . ومن المعروف حسب التقديرات الجيولوجية أنه جرى ترسيب تكتلات جاك هيلز منذ ثلاثة مليارات سنة، وهو يشكل الحافة الشمالية الغربية لمجموعات من التكوينات الصخرية التي يتجاوز عمرها 6 .2 مليار سنة . وللحصول على كمية قليلة جداً من بلورات الزركون التي لا تتجاوز بضع غرامات، كان على الباحثين جمع مئات الكيلوغرامات من الصخور من تلك المنكشفات الصخرية النائية ونقلها بعد ذلك إلى المختبر لسحقها وفرزها، وكأنهم يبحثون عن حبات معينة من رمل الشاطئ .
وبعد استخلاص تلك البلورات من مصدرها الصخري صار بالإمكان تحديد عمرها؛ لأن بلورات الزركون تشكل ضابط وقت نموذجياً فإضافة إلى ديمومتها الطويلة تحتوي هذه البلورات على كميات ضئيلة من اليورانيوم المشع الذي يتحلل بمعدلات معروفة ليتحول إلى رصاص . وأصبح ممكناً تحديد عمر جزء معين من إحدى بلورات الزركون للمرة الأولى في أوائل الثمانينات من القرن العشرين، حين ابتكر الباحث كومستون وزملاؤه من الجامعة الوطنية الأسترالية في كانبيرا نوعاً خاصاً من المسابر الميكروية (المجهري) الأيونية، وهي آلة كبيرة للغاية يشار لها اختصاراً ب SHRIMP أي المسبار الميكروي الأيوني الحساس ذي الدقة العالية Sensitive High Resolution Ion Micro Probe . وعلى الرغم من أن معظم بلورات الزركون لا تكاد ترى بالعين المجردة، إلا أن هذا المسبار يطلق حزمة من الأيونات المركزة للغاية، لدرجة تجعلها قادرة على قذف عدد صغير من الذرات في أي جزء تسلط عليه من سطح الزركون . وبعد ذلك يتولى مقياس الطيف الكتلوي قياس تركيب هذه الذرات بمقارنة كتلها .
وفي عام 1999 حلل طالب يدعى H .W) يك)، وهو حالياً مدرس في جامعة كولجيت وكجزء من أطروحة دكتوراه، 56 عينة لم يحدد عمرها سابقاً باستخدام جهاز شريمب مطور، فوجد أن خمساً منها تتجاوز أعمارها أربعة مليارات سنة، كان عمر الأقدم منها 4 .4 مليار سنة . علماً بأنه لم يُعثر على أعمار كهذه في كوكبنا، ولم يكن ذلك متوقعاً فجميع الباحثين تقريباً توقعوا أنه حتى لو وجدت بلورات من الزركون كهذه الأكثر قدماً، فإن ظروف حقبة الهاديان الدينامية دمرتها . لكن في ذلك الحين لم يكن يعلم هؤلاء أبداً أن أكثر الاكتشافات إثارة يمكن أن تظهر فيما بعد .

كان الباحثان وايلد وبيك يبحثان عن عينة محفوظة جيداً للأكسجين الأقدم في كوكب الأرض وفكر بالبحث عنه في عينة من زركون غرب أسترالياً لأنه بإمكان الزركون الاحتفاظ بأدلة لا تشمل فقط زمن تشكل الصخور المضيفة بل وكيفية تشكلها . وكان الباحثان يستخدمان النسبة بين مختلف نظائر الأكسجين لتقدير درجة حرارة العمليات التي أدت إلى تشكل الصهارة والصخور . وفي العادة يقوم الجيوكيميائيون بقياس النسبة بين الأكسجين 18 الذي يشكل 2 .0 في المئة من مجمل الأكسجين في الأرض والأكسجين 16 وهو النظير الشائع للأكسجين والذي يشكل نحو 8 .99 في المئة من مجمل الأكسجين المندمجة في البلورة في أثناء تشكلها والتي تتباين تبعاً لدرجة حرارة الوسط الذي تتشكل فيه .
وحسب التقديرات فإن النسبة بين نظيري الأكسجين 18 و16 في وشاح الأرض (غلاف سماكته 2800 كيلومتر يقع مباشرة أسفل القشرة القارية والمحيطية والتي يتراوح سمكها بين خمسة و40 كيلومتراً)، ونسبة نظائر الأكسجين في الصهارة المتكونة فيه هي نفسها تقريباً . وبمعايرة هذه النسب بالرجوع إلى النسبة التي نجدها في مياه البحر والتي يعبر عنها بالرمز دلتا delta نجد أن قيمة O18 للمحيطات هي صفر تعريفاً، وقيمة O18 للزركون في وشاح الأرض 3 .5 بمعنى أنها تحوي نظيري الأكسجين 18 و16 أكثر من مياه البحر .

وتوقع الباحثان أن يجدا قيمة قريبة من 3 .5 لوشاح الأرض البدائي، عندما أخذا زركون جاك هيلز، بما في ذلك العينات الخمس الأقدم، إلى جامعة أدنبرة باسكتلندا لتحليلها بمساعدة الباحثين كرين وجراهام اللذين يستخدمان نوعاً مختلفاً من المسبار الميكروي الأيوني الذي يلائم بشكل خاص قياس نسب نظائر الأكسجين . وبتحليل عينات حجمها يعادل واحداً في المليون من حجم العينات التي جرى تحليلها في مختبري بوسكونسين تبين من القياسات أن التوقعات كانت خاطئة، فقد وصلت قيم O18 إلى 7،4 وهو أمر مدهش بالفعل فما الذي يمكن لهذه النسب العالية لنظائر الأكسجين أن تعنيه؟
الحقيقة أن السيناريو النموذجي لهذا الأمر يتمثل في أن الصخور المنتشرة على سطح الأرض يمكن تحت درجة حرارة منخفضة أن تكتسب نسبة مرتفعة من نظائر الأكسجين إذا تأثرت كيميائياً بمياه الأمطار أو بمياه المحيطات . ومن ثم، فإن دفن هذه الصخور ذات النسبة العالية من O18 وصهرها يؤدي إلى تشكيل صهارة تحتفظ بهذه القيم المرتفعة التي تنتقل إلى الزركون في أثناء تبلوره . وهكذا فإن ثمة حاجة إلى توافر الماء السائل ودرجات الحرارة المنخفضة على سطح الأرض لتكوين زركونات وصهارات تتسم بقيم O18 مرتفعة ما يعني أن الماء السائل وجد على سطح الأرض قبل 400 مليون سنة، على أقل تقدير، من تشكل أقدم الصخور الرسوبية المعروفة، أي صخور إسيوا Isua في غرينلاند . وإذا صح ذلك، فإن محيطات برمتها ربما كانت موجودة، بحيث جعلت المناخ المبكر للأرض أشبه بالساونا .
والواقع أنه تبين من خلال التحليل أن أكثر بلورات الزركون صغراً تحتوي على مواد أخرى تغلفت أثناء نمو الزركون حولها وهو ما سمي بمحتبسات الزركون . وعندما درس الباحث (بيك) بلورات الزركون البالغ عمرها 4 .4 مليار سنة، وجد، أنها تحتوي على أجزاء من معادن أخرى بما في ذلك الكوارتز . وكان ذلك مدهشاً لأن الكوارتز نادر الوجود في الصخور البدائية، وربما كان غير موجود في القشرة الأولية للأرض . فمعظم بلوراته تأتي من الصخور الجرانيتية التي أصبحت شائعة في القشرة القارية الأكثر تطوراً .

فإذا كان مصدر زركون جاك هيلز صخراً جرانيتياً، فإن هذا الدليل يؤيد فرضية مفادها أن هذا المعدن يمثل عينة من أول قارة ظهرت على كوكب الأرض . إلا أنه لابد من توخي الحذر . فالكوارتز يمكن أن يتشكل في المراحل الأخيرة من تبلور الصهارة حتى ولو لم تكن الصخور الأم جرانيتية، فقد تم العثور على الزركون وبضع حبات من الكوارتز على سطح القمر الذي لم يشهد بتاتاً تطور قشرة جرانيتية قارية . وتساءل بعض العلماء عن إمكانية تشكل بلورات الزركون الأقدم في بيئة شبيهة ببيئة القمر الأولية، أو أنها تكونت بوسائل أخرى غير شائعة حالياً، كأن تكون ذات صلة بارتطام نيزك ضخم أو بنشاط بركاني نابع من مصدر عميق، ولكن أحداً من العلماء لم يجد دليلاً مقنعاً .
ومن خلال البحث الدقيق تبين أن بلورات الزركون كانت منتشرة بكثرة في زمن ما، وأن مصدرها هو منطقة واسعة الامتداد، ربما كتلة قارية . فإذا كان الأمر كذلك، فهناك احتمال كبير بأن صخوراً من ذلك الزمن الموغل في القدم مازالت موجودة في وقتنا هذا، وهو أمر مثير لأننا قد نتعلم الكثير من صخور بقيت سليمة تنتمي إلى ذلك الزمن القديم .

وأحدث ما استجد في هذا المجال تقرير صدر عن بي إي واتسون من معهد رنسيلاير وليتكنيك وإم تي . هاريسون من جامعة أستراليا الوطنية عن وجود تركيزات من التيتانيوم أقل من المتوقع في بلورات الزركون القديمة، مما يدل على أن درجة حرارة الصهارة التي تشكلت فيها تراوحت بين 650 و800 درجة سيلزية . ومثل هذه الدرجات المنخفضة لا تتوافر إلا إذا كانت الصخور الأم جرانيتية، لأن معظم الصخور غير الجرانيتية تنصهر في درجات حرارة أكثر ارتفاعاً، ومن ثم فإن الزركون الموجود فيها لا بد أن يحتوي على نسب أعلى من التيتانيوم .
وثمة اكتشافات جديدة لمئات من بلورات الزركون من مواقع مختلفة جرى الإعلان عنها وتراوحت أعمارها بين 4 .4 و4 مليارات سنة . ويتقصى الجيوكيميائيون مناطق قديمة أخرى من الأرض يحدوهم الأمل في أن يجدوا للمرة الأولى بلورات زركون عمرها أقدم من 1 .4 مليار سنة من خارج أستراليا . وأظهرت دراسة أخرى من خلال تحليل أكثر من 20 بلورة من زركون جاك هيلز احتوائها على نسب مرتفعة من نظائر الأكسجين التي تشير إلى درجات حرارة منخفضة (برودة) على سطح الأرض ومحيطات قديمة يرجع عمرها إلى 2 .4 مليار سنة . وستتم الإجابة عن العديد من الأسئلة إذا أمكن التعرّف إلى الصخور الأصلية التي تشكل فيها الزركون . وحتى لو لم يجد العلماء قط، فإنه بإمكانهم أن يتعلموا الكثير من حبيبات الزركون بالغة الصغر .