الرياض ـ وكالات
كان مبدأ الإجازات في أروقة وساحات الحرم المكي الشريف أشبه ما يكون بجامعة مفتوحة، يشد لها الرحال من جميع أصقاع الأرض، بغية الحصول على مختلف المعارف والعلوم من مصادرها الموثوقة حيث كان لصدر الإسلام والطبريات المقام الأرفع في تلك العلوم التي استخدمت كجوازات سفر عابرة لنقل العلوم في جميع قارات الأرض. «المرأة» كانت حاضرة في هذا المشهد على مدى عقود حيث برزت عشرات الداعيات والعالمات، وهنا يقول الدكتور عبد اللطيف بن دهيش، أستاذ علم التاريخ في جامعة أم القرى في حديثه لـ«الشرق الأوسط»، إن أبرز الفقيهات المحدثات كانت الطبريات، حيث كانت مجموعة كبيرة من العالمات المحدثات اللاتي تم إيكال الأمر لهن للتدريس وتفقيه الناس خلال قرون عديدة. اليوم تعود المرأة محاضرة ومعلمة داخل الحرم المكي بعد أن قررت الرئاسة العامة لشؤون الحرمين إعادتها تأكيدا منها على أهمية دور المرأة في إعطائها دروسا تاريخية للمرأة خاصة إذا كانت حاجة أو معتمرة لتفسير كثير من الأمور والمواقف الكثيرة والمتعددة التي تقوم بها المعتمرات والحاجات. يقول بن دهيش إن اختيار المرأة لتعود محاضرة داخل أروقة الحرم المكي هو دليل على أهمية عمل المرأة كعالمة وفقيهة، حيث يجب ألا يحجم عمل المرأة وأن تعطى حقها في التدريس شأنها شأن العالمات الفقيهات في مختلف العصور، بحيث لا يمس أخلاقياتها ولا مبادئها التي تربت عليها بأي حال من الأحوال، ضاربا مثلا بالعالمة فاطمة المروازي من القرن السابع الهجري، في المدينة المنورة وكان لها الإسناد العالي، وكان لها مكان في داخل الروضة النبوية الشريفة، وكانت محدثة شهيرة يقصدها طلبة العلم من فارس والأندلس والمغرب العربي، ومصر واليمن، مفيدا بأنهن سلسلة من العالمات اللائي زخر بهن التاريخ في عصور مختلفة بيد أن القرن السابع شهد حركة أكبر. من ناحيته، قال الدكتور عدنان الحارثي، أستاذ علم المكتبات والمعلومات بجامعة أم القرى لـ«الشرق الأوسط»، إن الدروس في الحرم المكي الشريف بدأت منذ وقت مبكر من صدر الإسلام، وهناك من بدأ تلك الدروس من صحابة الرسول - صلى الله عليه وسلم - وكان يدور بينهم وبين فئات مختلفة من الناس حوارات فكرية مختلفة، كالتي بدأت مع الخوارج داخل أروقة الحرم المكي الشريف، حتى في الأوقات العصيبة أيام فتنة عبد الله بن الزبير. وأفاد الحارثي أن تلك الدروس استمرت تتطور على امتداد التاريخ، ومرت بتطورات نوعية هبوطا وصعودا، حيث تراجع التدريس داخل جنبات الحرم المكي الشريف، خاصة في أثناء الدولة الفاطمية حينما استولى الفاطميون على الحجاز، حيث عملوا على تقليص الدروس الدينية داخل المسجد الحرام، حيث كانت مزدهرة خاصة في العهد العباسي الأول، بيد أنه مع الاضطرابات التي حصلت خاصة مع عمليات قطع الخوارج لطرق الحج، وبالذات طريق الحج العراقي، ومنها تقسيم الدولة الإسلامية إلى عدة دويلات، وما نتج عنها من صراعات وحروب، كل ذلك قاد إلى التأثير على الناتج والموروث الحضاري. وأبان الحارثي، أن كل الصراعات أثرت تأثيرا مباشرا على الحجاز، حيث بدأت الدعوة الإسلامية وانطلقت من مكة المكرمة، فقد أضحى يعتمد في موارده على مواسم الحج والعمرة، وعلى الإنفاق القادم من عواصم الدولة الإسلامية، وعلى الحجاج وأعدادهم القادمين إلى مكة المكرمة، حيث إنه بعد الانتهاء من السيطرة الفاطمية، بدأت تظهر نهضة جديدة لكنها أخذت شكلا جديدا، حيث إن هذا الشكل الجديد يتمثل في إنشاء مؤسسات مجاورة للحرم المكي الشريف للتعليم، بالإضافة إلى إنشاء حلق حول الحرم المكي الشريف تعنى بالتعليم، وهذه الحلق كان التركيز فيها على الحصول على موارد مالية كافية، عن طريق وقف الأوقاف. واستطرد الحارثي قائلا: «كان ذلك العصر هو بداية أوقات الوقف العلمي، حيث انتشرت المؤسسات التعليمية بشكل واسع في تلك الفترة، وكانت تلك الحلق في طريقها للتوسع، وكان العصر الجديد في إنشاء كتاتيب وزوايا تعليمية واسعة، لتعليم العلم داخل أروقة الحرم المكي الشريف، وحول الحرم المكي الشريف، كلها تجلت على شكل مؤسسات تعليمية للتعليم». وقال الحارثي إن تلك الإطلالات التعليمية استمرت إلى العصر العثماني، حيث شكلت بداية لضعضعة الأوقاف، وانقسمت الدولة الإسلامية إلى دول كبيرة، وظهرت الدول كما هي في العصر الحديث ولم يعد هناك ما عرف بالأوقاف حول الحرم المكي الشريف، وصولا إلى الدولة السعودية التي أمسكت زمام التعليم وأوقاف الحرم المكي، حيث نستطيع أن نسمي عصر الدولة الإسلامية بما يعرف بعصر الانبعاث الجديد لزوايا وأروقة الحرم المكي الشريف. وأفاد أستاذ علم المكتبات، أنه من الصعوبة بمكان حصر أعداد العلماء من المسلمين من جميع أصقاع الأرض الذين قدموا لتلقي العلوم داخل أروقة المسجد الحرام، حيث كانت فرصا مواتية بالنسبة لهم لأخذ إجازات علمية من علماء الجزيرة العربية آنذاك، متمنيا أن يعاد تأسيس موضوع تاريخ الدروس داخل الحرمين الشريفين، حيث سيكون إضافة جديدة لأبناء العالم الإسلامي، لما للحرمين الشريفين من مكانة علمية متميزة. وهنا يعود الدكتور عبد اللطيف بن دهيش، ليشرح انطلاقة فكر التدريس الديني، قائلا إن المعلم الأول الذي وجه الرسالة الإنسانية للعالم أجمع كان الرسول - صلى الله عليه وسلم - مرورا بمدرسة الأرقم التي كانت علامة فارقة في تاريخ التعليم في صدر الإسلام، حيث بدأ في أثرها انطلاق الدروس الملاصقة للمسجد الحرام، حتى في بيت الرسول - صلى الله عليه وسلم - مؤكدا أن أول حروف من القرآن الكريم سطرت في هذا المسجد، وأول كتاب سطرت به مكتبة الحرم المكي الشريف، هو القرآن الكريم. وأفاد بن دهيش، أن المسجد الحرام على امتداد التاريخ، لم يكن مكانا للصلاة فحسب بل منارة تعليمية يأتي إليها جميع المتعلمين من جميع أصقاع الأرض، والثقافة والمعرفة، حيث برز الإمام عبد الله بن العباس وأئمة كثيرون على مختلف العصور، مؤكدا أن ذلك الوقت شهد انتشار مدارس محيطة بالحرم المكي الشريف، كمدارس المذاهب الأربعة، وكان بعض تلك المدارس يطل إطلالة مباشرة على المسجد الحرام. وقال بن دهيش، إنه إلى عصرنا الحالي وعلى الرغم من وجود الجامعات، فإن كثيرا من العلماء يتخذون زوايا لصيقة بالمسجد الحرام لنشر علومهم ومعارفهم على الزوار والحجاج والمعتمرين، حيث قد عدد الدروس العلمية المقدمة في عهد الملك الراحل عبد العزيز آل سعود، مؤسس المملكة العربية السعودية، بأكثر من أربعين درسا وحلقة، وكانت تلك الدروس بعدة لغات كالأوردو والجاوي، والأفريقي ولغات أخرى، على اختلاف المذاهب الأربعة من الحنبلي والشافعي والمالكي والحنفي، حيث كانت أوقاتها متنوعة ومختلفة من صلاة الفجر حتى صلاة العشاء، وقد عجت تلك المجاميع اللغوية والمعرفية بالكتاتيب، ودروس الخط العربي المختلفة. بدورها، قالت الدكتورة لمياء شافعي، أستاذة علم التاريخ لـ«الشرق الأوسط»، إن المرأة المكية حققت مكانة علمية عالية على مر عصور التاريخ الإسلامي ومراحله، فظهرت نساء عالمات في مختلف مجالات المعرفة وفروعها من نظرية وعلمية، إذ جلست المرأة محدثة وفقيهة كما كانت أديبة وشاعرة وطبيبة مداوية، ومن أشهر نساء العوائل المكية العلمية: الفهديات والنويريات والقسطلانيات والفاسيات والطبريات. وقالت شافعي إن المرأة المكية لم تتغيب عن الظهور في الحياة العلمية على مر العصور التاريخية فكان ظهورها بارزا وواضحا ولقد لاحظنا هذا الحضور من خلال ما طالعناه من كتب التاريخ المكي وكتب الطبقات والتراجم التي قرأنا فيها الكثير من أخبار النساء المكيات الساعيات إلى طلب العلم على كبار شيوخ عصرهن، والكثير من النساء العالمات اللاتي كن ينشرن العلم ويدرسنه في مختلف المجالات وفي مختلف مواطن التعليم سواء في الحرم المكي أو في بيوتهن ضمن أفراد عوائلهن العلمية من آباء وإخوة وأزواج، حيث تنعقد المجالس العلمية ويقع فيها تبادل المعرفة والعلوم الدينية وخاصة رواية الأحاديث النبوية والآثار المحمدية للمصطفى - صلى الله عليه وسلم. وضربت شافعي مثلا بأسرة بني فهد كمالية بنت محمد الفهدية (ت866هـ-1462م) التي اهتمت بجمع العلوم وأحصينا من شيوخها سبعين عالما وعالمة من مختلف المراكز العلمية الإسلامية، درست «الصحيحين» و«الموطأ» والكثير من المشيخات والمسانيد، كما درست كتاب «السيرة النبوية» لابن إسحاق وكتاب «تاريخ مكة» للأزرقي، ومن الفهديات أم هاني زينب بنت محمد الفهدية (ت885هـ-1480م) درست قرابة خمسين كتابا من كتب الحديث وغيره وأجاز لها ستة وسبعون شيخا من كبار علماء عصرها سواء بالحضور أو بالمراسلة والإجازة. وأضافت أستاذة علم التاريخ أنه من عائلة بني ظهيرة القرشية، أورد السخاوي ترجمة لثمان وتسعين منهن، اشتهرت منهن زينب بنت علي الظهيرية (899هـ-1494م) التي جمعت من الإجازات أكثر من ثلاث وعشرين إجازة - وأختها أم هاني التي حصلت على إحدى وخمسين إجازة من شيوخ وعلماء عصرها – وقيل عنها إنها كانت تلازم جلسات العلم في المسجد الحرام ولا تخرج حتى يفرغ الواعظ بالمسجد الحرام، وتأتي في رمضان كل يوم بعمرة، وتصوم الاثنين والخميس والأيام البيض ورجب وشعبان وتلازم المسجد كل يوم وليلة. ومن العالمات النويريات القرشيات ظهرت أم الحسين سعادة ابنة القاضي أبي الفضل النويرية (ت832هـ-1429م)، وهي والدة أكبر مؤرخي مكة في عصره تقي الدين محمد الفاسي. وزادت شافعي أن من عائلة الفاسيين الذين وردوا مكة من فاس خلال القرن السابع الهجري فجاوروا وعاشوا بها إلى زماننا هذا، ظهرت من الفاسيات عالمات منهن شريفة ابنة القاضي عبد اللطيف الفاسية (ت882هـ-1477م) التي درست على خمسين شيخا من مختلف البلدان الإسلامية. ومن القسطلانيات ظهرت أم الهدى هدية بنت عبد الله القسطلانية (ت860هـ- 1456م) التي أجاز لها كبار العلماء، وأجازت هي في الاستدعاءات. ومن الطبريات ظهر الكثير من العالمات اللاتي درسن على كبار شيوخ العالم الإسلامي أمثال البهاء السبكي والحافظ الهيثمي وابن عساكر والذهبي وابن خلدون وغيرهم. كما درس عليهن كبار علماء العالم من أمثال السخاوي والسيوطي والحافظ العراقي وابن قطرال ولسان الدين ابن الخطيب وغيرهم. ومن أشهرهن، بحسب شافعي، آسيا بنت جار الله الطبرية (ت873هـ-1468م) التي أجاز لها الحافظ العراقي والحافظ الهيثمي وبدر الدين السبكي، وأبو اليمن الطبري، كما سمعت من الفيروز آبادي كتابه الشهير «القاموس» في اللغة، ومن أشهر تلاميذها النجم بن فهد، كما درس عليها السيوطي كتاب «القاموس»، وأخذ عنها السخاوي. وقريش بنت عبد القادر الطبرية (ت1107هـ-1696م) كانت فقيهة، عالمة بالحديث، حتى اعتبر الشيخ فالح الظاهري أنها أهل لأن تؤم أهل دارها، وقال عنها في كتابه «صحائف العامل»: «لو حضرت قريش الطبرية أو عائشة المقدسية أو كريمة المروزية، وهن من النسوة المسندات، لصليت وراءهن غير مرتاب ولا متشكك».