موريتانيا ـ وكالات
رغم المعاناة والضغط النفسي والبدني وتواضع المردودية المادية ونظرة المجتمع، تخوض نساء موريتانيات غمار مهنة الصيد البحري بملحمية وتفرضن منافسة قوية على الرجال.قامت بجولة في عالم مهنة البحر التي أصبحت نسائية أيضا. إذا كان معظم البشر يتفقون على صدق المقولة التي تفيد بان "العمل شرف" فإن دلالة تلك المقولة تتجسد أكثر من خلال ما يلحظه الزائر العادي لشاطئ المحيط الأطلسي غرب العاصمة الموريتانية نواكشوط، حيث تزاحم بعض النسوة الموريتانيات رجال الصيد"التوبولا tobola" في ممارسة مهنة احتكرها الرجال لعقود طويلة وهي الصيد البحري الشاطئي بل واحتكار تزويد أسواق مدينة نواكشوط بالسمك وما يقتضيه ذلك من تخصص في شفط تلك المادة وتقطيعها وتمييز أنواعها، وذلك رغم المعاناة النفسية والبدنية وقلة المردودية المالية ونظرة المجتمع القاسية أحيانا. لكن غالبية هؤلاء النسوة اللواتي يعرفن محليا بـ"أنجايات"يتفقن في النهاية على أنه ليست هنالك مهنة خاصة بالرجال، وأن المرأة ليست بالضرورة أقل تحملا من الرجل خاصة إذا لم يكن أمامها أي خيار لممارسة عمل آخر لإعالة أسرتها الفقيرة"حسب ما تقول البحارة أم الخير منت سليمان التي أفادت بأنها تمارس هذه المهنة منذ 12 سنة. وهي تعترف بأن ظروف الفقر وضغط الحاجة الملحة هي ما يدفع غالبية البحارات "أنجايات "إلى مزاولة مهنة عرفت للرجال فقط. وتتحدث أم الخير البالغة من العمر 50 سنة عن تجربتها الشخصية قائلة "دخلت هذه المهنة بعد أن واجهتني ظروف قاهرة، بعد أن تركني زوجي السابق في مواجهة واقع يحتم علي إعالة أربع بنات صغيرات في السن والسهر على دراستهن، وبما أنني لم أكن أجيد أي حرفة قررت ولوج عالم البحر وبيع السمك، وقد زادني إصرارا على الدخول إلى هذا العالم بعض الصديقات اللواتي يتشابهن معي في نفس الظروف المادية". ثم تضيف قائلة"في البداية كان العمل صعبا للغاية بسبب قطع مسافة بعيدة في وقت مبكر وانتظار يوم كامل على الشاطئ حتى تعود الزوارق من الأعماق ومن ثم تبدأ معركة التفريغ والمساومة ونقل السمك من الشاطئ إلى السوق المركزي وتقطيعه وشفطه وتوزيعه حسب أصناف وتسويقه". ولمواجهة نظرة المجتمع التي تنتقص من المرأة التي تعمل في هذا المجال الذي يحتكره الرجال تقليديا، تقول أم الخير"أعتقد أن نظرة المجتمع للمرأة العاملة عند شاطئ البحر قد تغيرت خلال السنوات الأخيرة مع اتساع دائرة المشتغلات في هذا المجال من الموريتانيات ،لكنني في النهاية لا أعير أي اهتمام لنظرة الآخرين لأنني أعمل بقناعة تامة بهدف إعالة نفسي وأفراد أسرتي بدل التسول واللجوء إلى الآخرين". أما عيساتا جوف المرأة ذات الستين، فقد شخصت حالتها التي بدت أكثر صعوبة من سابقتها عندما قالت بأنها تعيل ست أولاد لأن والدهم يعيش في السنغال، "لكن التقاليد تقتضي أن تهتم المرأة بأبنائها في غياب الاب". وأضافت أن"عملها كإمراة في مجال بيع السمك عند شاطي البحر يعتبرجزءا من تقاليد المجتمع الافريقي الذي تنمتى اليه حيث يجدر بالمرأة أن تتعب في العمل من أجل العائلة لتخفيف الاعباء على الزوج". وإذا كانت أم الخير قد مارست هذه المهنة بسبب ضغط الحاجة فإن الأمر قد يختلف بالنسبة لبعض زميلاتها في المهنة، حيث يتعلق الأمر بالنسبة لهن بأي مهنة مدرة للدخل وتساهم في بناء الأسرة وتدفع المرأة للخروج من المنزل بدل الاعتماد على ما يأتي به الزوج كما تقول فاطمة منت العيد البالغة من العمر 30 سنة. وتضيف قائلة"أنا متزوجة منذ خمس سنوات وليس لدي أبناء وحالتي المادية مستقرة إلى حد ما، لكن رغبتي في المساهمة في زيادة الدخل دفعني الى الالتحاق بالبحر وممارسة تجارة السمك". وردا عن سؤال حول سبب اختيارها لهذه المهنة الصعبة تقول منت العيد "بالنسة لي لا يوجد عمل صعب وآخر بسيط والقضية تبقى مرتبطة بالتعود فقط". لكن تربة منت عمار، وهي كاتبة في مجال حقوق المرأة وأستاذة التاريخ الإسلامي بجامعة نواكشوط، لديها رأي آخر حيث تقر بصعوبة هذه المهنة بالنسبة للمرأة بصفة عامة و نظرا للرغبة الغريزية لدى المرأة في الحفاظ على أنوثتها "يختصر عمل هذه الفئة من النساء على الشاطئ فقط،لانه ليس بمقدورهن ركوب الزوارق إلى جانب الرجال". وتضيف منت عمار بان النسوة اللواتي يمارسن هذا العمل "ينحدرن في معظمهن من ولاية ترارزة Trarzaفي الجنوب الغربي لموريتانيا المحاذي للمحيط الاطلسي وبالتحديد فئة من الحراطين التي ذابت في المجتمعات الزنجية بحكم المساكنة وبالتالي تأثرن بعاداتهم في عمل المراة في مجال السمك". وتؤصل الباحثة تربة منت عمار لعمل هؤلاء النسوة في البحر بصفة خاصة من الناحية التاريخية قائلة إنه"من المعروف أن سكان ولاية ترارزة بصفة خاصة هم الأكثر ارتباطا بكل ما كان يأتي عن طريق المحيط من تجارة منذ عدة قرون وبما أن السمك يأتي من المحيط كان من الطبيعي ان يرتبط به سكان تلك الولاية بشكل محدد وخاصة النساء".محمد سالم ولد الشيخ باحث اجتماعي أجرى عدة دراسات حول المجتمعات الافريقية جنوب غرب موريتانيا ،لا يختلف كثيرا عن هذا الرأي و يعلق على ارتباط فئة معينة بهذا النوع من العمل قائلا"اعتقد أن ارتباط هؤلاء النسوة بعمل البحر ثقافة ناجمة أولا عن علاقة التأثير والتأثر بقبيلة الولوف wolof السنغالية حيث عرف هؤلاء منذ القدم بارتباط حياتهم الاقتصادية بالبحر بينما لم يتعرف سكان المجتمع الموريتاني على السمك وثقافة أكله إلا في السبعينات من القرن الماضي بسبب الجفاف الذي ضرب الثروة الحيوانية".أما العامل الثاني فيكمن، برأي الباحث الموريتاني، في وجود ظاهرة لدى السنغاليين أثرت على الفئة الموريتانية التي تعمل بالبحر وهي ان الرجال بالسنغال ينزلون للبحر لصيد السمك بينما تتولى المرأة مهمة بيع كل ما يجلبه الرجل وقد دخل هذا التقليد الى موريتانيا عن طريق هؤلاء النسوة. لكن يضيف محمد سالم "لا يكفي ان تكون العادة موجودة قديما حتى توجد هذه الظاهرة وإنما هنالك ظروف الفقر التي تدفع المرأة الى الخروج من المنزل الى البحر عكس العقلية السائدة التي لاتشجع المراة عموما على العمل".وأشار الباحث ولد سالم، إلى عامل ثالث، يتمثل في انتشارثقافة مجتمع الصيادين التقليديين الموريتانيين المعروفين بمجتمع "ايمراكن imragen" الذي وهو مجتمع تشارك فيه المراة الرجل في العمل، وعندما دخل بعض افراده الى المدينة اصطحبوا معهم عاداتهم وقد أثر ذلك في بعض الفئات الموريتانية الاخرى.ومن أبرز الدوافع التي تجعل المرأة تخرج للعمل في المجتمعات التي تعيش على الصيد البحري، يقول الباحث الموريتاني ان شعور المرأة بمسؤوليتها يدفعها إلى الخروج للعمل على الشاطئ لإعالة الابناء وسد فراغ غياب الرجل في عرض البحر لعدة أيام قد تزيد عن أسبوعين، أحيانا. واستبعد محمد سالم أن يكون المجتمع الموريتاني ينظر بدونية الى عمل هؤلاء النسوة في البحر قائلا: "رغم ان المجتمع العربي في موريتانيا لايشجع المراة العاملة عضليا فإنه لاينظر بدونية إلى الصيادات التقليديات بل أصبح يمجدهن باعتبارهن مكافحات وذلك نتيجة لعدة اعتبارات منها أن عملهن مصدر لتربية ابنائهن ويمثل بديلا للتسول الذي أصبح منتشرا بشكل فضيع داخل العاصمة نواكشوط.