لندن _صوت الأمارات
تعد التربية الأخلاقية بمثابة تربية للإرادة، وإذا كانت الأخلاق هي رصيد الكائن الذي يبلغ تفتحه الكامل، فمن المنطق أن نفكر في أن التربية الأخلاقية مدعوة لتتبع تطور الكائن الطبيعي خطوة بخطوة، (ناصر، 2006م، ص257)، فمسألة السلوك الأخلاقي تعد بمثابة الركيزة الأساسية التي يقوم عليها أي نشاط إنساني، فهي القوة التي تنظم الحياة الاجتماعية من كل جوانبها التعبدية والتعاملية، فافتقاد الإنسان للسلوك الأخلاقي الطيب، ينعكس بصورة سلبية على تعاملاته، (طراد، 2011م، ص85)، فالأخلاق ليست مجموعة من القوانين المجردة، بقدر ما هي أسلوب في التعامل مع الأفراد في مواقف الحياة العملية. وتتسم الأخلاق بأنها لا تنحصر في ميدان واحد واضح ومحدد المعالم من ميادين النشاط الإنساني، حيث أنها ضابطة للعلاقات الإنسانية في أي مجال من المجالات الحياتية للنفس البشرية. (سعد، 2010م، ص 8). فما من ظاهرة من مظاهر الحياة الاجتماعية قبل العلم والفلسفة وغيرها، حظيت بتفسيرات متناقضة بقدر ما حظيت به الأخلاق، من حيث تنوع مفاهيمها على امتداد تاريخها الطويل. (خليف، 2008م، ص17).
تعريف الأخلاق
لغوياً: عرف ابن منظور كلمة الأخلاق بقوله: “والخلُق: السجية، وفي الموسوعة البريطانية جاء تعريف الأخلاق: بأنها قسم من الفلسفة التي تعنى بما هو جيد وقبيح وما هو صحيح أو خاطئ. (خليف، 2008م، ص16-17).
اصطلاحاً: يعرفها ابن مسكويه بأنها: “حال للنفس داعية إلى أفعالها من غير فكر وروية.
ويعرفها الغزالي بأنها: “عبارة عن هيئة في النفس راسخة عنها تصور الأفعال بسهولة ويسر من غير حاجة إلى فكر وروية.
ماهية التربية الأخلاقية
التربية الأخلاقية هي: “مجموعة من القيم الموجهة لسلوك الطفل لتحقيق أهدافه في الحياة”
أو هي: “مجموعة من الخبرات التربوية التي يمر بها الطفل داخل الأسرة وخارجها”
ويشير علوان أن التربية الأخلاقية هي: “مجموعة من المبادئ الخلقية والفضائل السلوكية والوجدانية التي يجب أن يلقنها الطفل، ويكتسبها ويعتاد عليها من تميزه وتعقله إلى أن يصبح مكلفا إلى أن يتدرج شابا إلى أن يخوض خضم الحياة”. (سعد، 2010م، ص7-10).
أهمية التربية الأخلاقية
تعتبر الأخلاق قوة دافعة للسلوك والعمل، فالقيم المرغوب فيها متى تأصلت في نفس الفرد أو المتعلم فإنه يسعى دائما للعمل على تحقيقها، كما أن هذه القيم تصبح المعيار الذي يقيس به أعماله وتوفر عليه الوقت والجهد، وتجنبه التناقض والاضطراب كما تحقق لسلوكه الاتساق والانتظام بحيث يصبح له من الثبات ما يساعد على التنبؤ بسلوك هذا الفرد في مواقف جديدة. (العراقي، 1984م، ص73).
تاريخ دراسة الأخلاق
إن البحث في الأخلاقيات موضوع قديم حديث، تناولته المعتقدات الوضعية والدينية، وكان يُنظر إلى الأخلاقيات بأنها سلوك منسجم مع المبادئ والأفكار والقواعد التي يقرها المجتمع اعتمادا على العادات والتقاليد والممارسات المقبولة من الجماعة.
لقد ذهب جمهور من المفكرين إلى اعتبار الفكر الأخلاقي من أقدم الأفكار الإنسانية بحيث لا يسبقه إلا الفكر الديني الذي هو قديم قدم الإنسان نفسه، فمن النادر أن ينطلق التفكير الأخلاقي بمعزل عن المعتقدات الدينية، والأخلاق كعلم هو “الذي يبحث في الأحكام القيمة التي تنصب على الأفعال الإنسانية من ناحية أنها خير أو شر، وهو علم الواجبات، وهو كذلك العلم بالفضائل وكيفية اقتنائها ليتحلى بها وبالرذائل وكيفية توقيها ليتخلى عنها، فهو بمجمله يجعل الإنسان يعرف ما له وما عليه وأن يعمل لصالح المجتمع الذي ينتمي إليه إن لم يكن لصالح الإنسانية جمعاء (خليف، 2008م، ص22-28)
الأخلاق في الفكر الإسلامي
قال تعالى مادحاً نبيه المصطفى عليه أفضل الصلاة والسلام: “وإنك لعلى خلق عظيم”، فمن أول لحظات البعثة النبوية أعلن المصطفى عليه الصلاة والسلام إطارا عاما لدعوته حين قال: “إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق” وفي هذا تأكيد على أن الأخلاق موجودة في المجتمع العربي آنذاك، لكن لم تتهيأ الفرصة للعرب في الجاهلية لابتكار فلسفة أو نقلها عن غيرهم، و إن تركوا الكثير من الآثار الشعرية والنثرية التي تشمل على النصائح الخلقية المتسمة بالتفكر الفطري، فجاء الإسلام وأكد الحسن منها وحارب الخطأ فيها، فالأخلاق في الإسلام لها قيمة بالغة، ويتضح أن المفهوم الإسلامي للأخلاق يتميز عن المفهوم الفلسفي لها بأن الأخلاق في الإسلام منهج عملي وليست نظرية فلسفية. (خليف، 2008م، ص34-40).
الأخلاق عند الفلاسفة القدماء
سقراط: كانت طريقته في توليد الأفكار تبدأ بأسئلته عما يعني السائل بالخير والشر، أو بالشجاعة والجبن، أو بالعدل والظلم، فانشغل بالأخلاق باعتبارها ماهية الإنسان، والحكمة عنده هي كمال العمل القائم على كمال العلم. والفضيلة عنده علم والرذيلة جهل، ويؤكد على الطابع الكلي للضوابط والمفاهيم الأخلاقية، وفي مسألة ما هو الخير وعلى ما يقوم الأعلى بالنسبة للإنسان، يتبين ذلك فيما يسميه سقراط “المنفعة الأخلاقية”، وكان يعتبر الروح والجسد جزءان مختلفان من الإنسان الحي.
أرسطو: نظر للسعادة على أنها اللذة الناشئة من تحصيل الإنسان لكمال الفعل المقوم لطبيعته، وبذلك تكون كالفضيلة، أما العدالة عنده فهو متأثر بكلام أفلاطون، ويقسمها إلى: عدالة تمييزية – عدالة تعويضية – عدالة متبادلة.
الأخلاق عند الفلاسفة المسلمين
الفارابي: كانت الأخلاق عند فلاسفة المسلمين في الأعم الأغلب امتدادا للتراث اليوناني في الأخلاق، حتى أن الفارابي قام بشرح كتب أرسطو في الأخلاق، لكن المسلمين قاموا بالتوفيق بين الفلسفة والدين وامتد ذلك إلى أفكارهم الأخلاقية، فأخذوا ما يتناسب و لا يتنافى مع الدين الإسلامي، وكان الفارابي أكثر الفلاسفة الإسلاميين اهتماما بالأخلاق، حيث اهتم بمسألة فطرية الأخلاق أو اكتسابها، ويرى أن الإنسان مزود بقوة فطرية يستطيع بها أن يفعل الحسن أو القبيح، وبالتربية ينحاز إلى أحد الجانبين في السلوك. و يعتبر السعادة جوهر الخير الأعلى، حاله حال كثير من الأخلاقيين، و أن الناس مختلفون في تحديدهم لما تتحقق به السعادة. ومن أفكاره الأخلاقية الارتباط الشديد بين السعادة والمعرفة، وهو بذلك ليس افلاطوني فحسب ولا أرسطي فقط، بل هو مزيج من هذه الأفكار، حيث سمي بالمعلم الثاني، لأنه دون ما جمع وترجم من مؤلفات أرسطو المسمى بالمعلم الأول، في كتاب أسماه “التعليم الثاني”.
الغزالي: علم الأخلاق عند الغزالي هو تكييف النفس وردها إلى ما رسمته الشريعة، وعَرف الخلق بأنه عبارة عن هيئة في النفس راسخة، عنها تصدر الأفعال بسهولة ويسر من غير حاجة إلى فكر وروية، فالفضائل عنده كثيرة منها: الصدق، الصبر، التوكل، والإخلاص. فهو لا يفرق بين كلمة الفضيلة وكلمة الخلق فكلاهما عبارة عن هيئة النفس وصورتها الباطنة، وكان يوصي دائما بقلع الخلال الرديئة وغرس مكارم الأخلاق، ويقر أن لا دخل للعقل في حسن العمل وقبحه، وإنما الأمر في ذلك للشرع، فالعمل بمقياس العقل والشرع معا حين يريد أن يحكم: أخير هو أم شر، فالعمل خير إذا وافق العقل والشرع، وشر إذا خالف العقل والشرع.
الأخلاق عند الفلاسفة المحدثين
كانط: من المسائل المهمة في علم الأخلاق عند كانط، الواجبات المفروضة على الأفراد بمعنى الأفعال التي تفرضها قواعد مقبولة تحكم أي ناحية هامة من نواحي الحياة الاجتماعية أو أي عمل تعاوني، ويصنف الواجبات إلى: الواجبات القانونية والتي تنشأ بالقوانين والعقود المبرمة، والواجبات الأخلاقية وهي التي تقرها القواعد المقررة والضرورية للحياة الاجتماعية في المجتمع، والواجبات السياسية والتي تدل على واجب المواطن في الخضوع إلى قوانين السلطة السياسية. وتعد الواجبات الأخلاقية قضية ضرورية لإنجاز الفعل احتراما للقانون الأخلاقي، ولكي يكون للفعل قيمة أخلاقية يجب أن يكون متفقا مع الواجب وأن يتم عن شعور أنه واجب.
جون ديوي: تعتبر النظرية الأخلاقية عند ديوي طريقة أو اتجاه لمعالجة المشكلات الأخلاقية، تمكن الفرد من أن يختبر الأحكام الخلقية علميا، كما تستخدم الطريقة العملية في العلوم الطبيعية، فلقد أنزل عالم القيم والمثل من علياه، وربطه بهذه الحياة، فالخير عنده متغير يتغير بتغير المواقف والمناسبات والظروف، فهو جديد في كل مرة، فالخير في الموقف برأيه يكون بحل المشكلة وإزالتها بعد إعادة تكوين عناصرها، والمستويات والمثل هي فوض علمية تتم عن طريق التجريب. وينظر للقيم العليا بأنها ليس لأي منها سيادة على الأخرى، لأنها جميعا خاضعة للخبرة والتجريب ويتم الوصول للخير عن طريق البحث التأملي. (ناصر، 2006م، ص351-368).
الطبيعة الإنسانية والأخلاق
لا تكتمل الشخصية الإنسانية بالمهنة والعلم وحدهما؛ وهذا لأن العلم وسيلة مادية لمعرفة الوجود والمهنة وسيلة لكسب العيش. أما الشخصية الإنسانية فهي تعبير عن كيان الإنسان بوجه عام؛ والذات الإنسانية تعبير عن الوجود الاجتماعي والمعيشي. وهكذا يتعلق العلم والمهنة بالفردية، بينما تتعلق الأخلاق بالشخصية. فالشخصية وليدة الأخلاق التي تطبَّق في العلم والمهنة معًا.
إن احترام الشخصية الإنسانية وتحقيقها لا يتمَّان إلا بالفعل الأخلاقي الذي يجعل من الإنسان غايةً في ذاته، وتعتمد الأخلاق على القاعدة الإنسانية التي تجعل شخصيةَ الإنسان أسمى وأجلَّ من قيمته الاجتماعية التي يحيطها بهالة من التبجيل، فالشخصية الإنسانية تعبِّر عن ثقافة الإنسان وترفُّعه، وعن الدرجة التي بلغها في سلَّم التطور؛ وهذا لأن التطور، بعد وجود الإنسان، تطور عقلي وأخلاقي وروحي. وتتجلَّى هذه الشخصية في العمل الذي يعرِّف بها: فهذا العمل إما أن يرفعها وإما أن يحطَّ منها، يدنِّسها أو يقدِّسها، لأنه الوسيلة التي تُظهِر كيف تُطبَّق الأخلاق. [1]
الإلزام والالتزام الخلقي
هناك وجود حرية أخلاقية ووجود سلطة أو جبرية أخلاقية، ووجود جبرية مقصودة، وهي ليست الجبرية القهرية، وإنما الجبرية هنا هي التي يمكن للإنسان أن يخالف دواعيها بشكل من أشكال المخالفة وهذا ما يقصد به الإلزام الأخلاقي، وتحديد معنى الإلزام له قيمة؛ ذلك أنه لا معنى للمسؤولية الأخلاقية بدون وجود الحرية الأخلاقية، كما أن قيمة السلوك الأخلاقي تظهر بصورة أكثر وضوحاً عندما ينفذ هذا السلوك عن حرية واختيار وإرادة أخلاقية خيرة، وإذا كان الأمر كذلك فلا بد من أن تكون هناك حرية تجاه الإلزام، وتفضيل السلوك الأخلاقي على السلوك غير الأخلاقي هو الالتزام الأخلاقي، وكما يكون الالتزام عن دافع خارجي يكون أيضاً عن دافع داخلي، وأيا كان الأمر فلا بد من وجود إلزام والتزام في العمل الأخلاقي، ودرجة الالتزام مبنية على درجة الإلزام من حيث القوة والضعف ومن ثم من حيث التمسك بالمبادئ الأخلاقية وعدم التمسك بها.[2]
المسؤولية الخلقية
تعد هذه المسألة نتيجة طبيعية لمسألة الإلزام والالتزام الخلقي، ذلك أن مدى المسؤولية يتحدد بمدى الإلزام والالتزام، فالصفات والخصائص في الإلزام والالتزام الخلقي تؤثر في صفات و خصائص المسؤولية الأخلاقية، لأن الإلزام والالتزام الخلقي يسبقان على المسؤولية من حيث الوجود، والمسؤولية مبنية عليهما معاً. [3]
الجزاء الخلقي
إذا كانت المسؤولية الأخلاقية هي نتيجة طبيعية للإلزام والالتزام الخلقي، فإن الجزاء نتيجة طبيعية لها، والجزاء الخلقي من حيث إنه أساس أخلاقي له أهمية الأسس الأخرى، بل إن أهميته مزدوجة فهو مهم باعتباره دافعاً إلى التمسك بالقيم الأخلاقية، وهو مهم لأن العدالة تقتضيه؛ لأنها تفرق بين إنسان يبني وآخر يهدم، بين إنسان يخدم الناس وآخر يقتل الناس، فالجزاء يقتضي العدالة والعدالة تقتضي الجزاء وهما يجعلان للأخلاق معنى وقيمة، وبدونهما تفقد الأخلاق معناها فتصبح أمراً لا قيمة له.