الدوحة ـ وكالات
يحفل التراث العربي بالكثير من الممارسات النقدية، ولا سيّما في الأدب. لكن النقد العقلاني البنّاء لم يكن شائعاً ولم يمارَس إلا على شكل انتقاد بدلاً من نقد مبدع يضيف معرفة إلى أخرى، خصوصاً في ظلّ فشل مشروع الإصلاح والنهضة الذي حاول العرب إعادة صياغته.
وفي هذا الإطار يبحث كتاب "النقد بين الحداثة وما بعد الحداثة" الناقد العراقي المتخصص بعلم الاجتماع د. إبراهيم الحيدري، والمرشح لجائزة الشيخ زايد ضمن القائمة القصيرة للفنون والدراسات النقدية، في إشكالية الإصلاح والتحديث في العالم العربي ودور البنية الفكرية والمجتمعية التي أعاقت الدخول في عصر الحداثة.
ويرى أن السبيل إلى تحرير الذات العربية من أسر التخلّف إنما يبدأ أولاً بنقد الذات، ثم التراث الذي يقوم على النقل وليس العقل، فنقد الوافد الجديد، الحداثي وما بعد الحداثي، والانتقال من نقد الفكر إلى نقد المجتمع ومؤسّساته.
ويعرض المؤلّف تطوّر الفكر النقدي في أولى تجلّياته في الفلسفة الإغريقية، مروراً بالحركة التنويرية التي عرفها الفكر الإسلامي في العصر الوسيط.
ثم يتوقّف ملياً عند الملامح الرئيسية لعصر التنوير الأوروبي وأعلامه.
ويخلص إلى أن رفض الحداثة يعني رفض الحرية والعقلانية والمساواة الاجتماعية.
يقول "ارتبط النقد بعصر التنوير ومبادئه في التحرر والتقدم والعقلانية، الذي أشر إلى بداية عصر جديد، يؤكد على أهمية النقد ودوره ووظيفته في تطور المعرفة الإنسانية. وكان عمانوئيل كانت يلح "بأن عصرنا هو عصر النقد"، وان كل شيء ينبغي أن يخضع للفحص النقدي بهدف قبوله أو رفضه، وبالتالي إصدار أحكام صحيحة تستند على معلومات حقيقية ولا تُستخدم كسلاح ذي حدين. ومذّاك، اكتسبت عملية النقد قوة تأثير حقيقية في تطوير المعرفة الإنسانية. أما المحرك الأساسي للنقد فهو الشك بالحقيقة الكلية أو الجزئية. كما أن الشك يعكس في ذات الوقت معرفة أخرى، شرط أن يكون النقد داخلياً ويهتم بالمضمون وليس بالشكل فحسب".
وانطلاقا من أن النقد محاولة أولية جادة لفهم العالم وتغييره، يؤكد الحيدري ضرورة تحقيق مهامه التي تتعدى ممارسة النقد إلى تهيئة الوعي بأهميته ودوره وفاعليته في إعادة الثقة والاعتبار إلى الذات من جهة، وإيقاظ الإمكانيات والطاقات الإبداعية الكامنة للكشف عن مكامن القوة والضعف وتحفيز الإنسان لرفض وتحدي كل ما يكبل حريته ويعيق تطوره وتقدمه من جهة أخرى.
ويضيف أن الهدف من تأصيل النقد والوعي به هو تطور عقل نقدي يستطيع ممارسة دوره باستمرار وترسيخ ثقافة التساؤل والنقد، التي هي في جوهرها نقد للوعي وللفكر وللمجتمع، وفي ذات الوقت، نقد للنقد ذاته، فالنقد هو "جدل العقل" وهو نشاط إنساني متميز وأداة تحكم عقلانية تمكن الإنسان من النظر إلى الأمور بحكمة وعقلانية. وممارسة النقد تستدعي تأهيل الفكر لممارسة النقد بحرية للذات وللآخر، لأن جوهر النقد هو الحرية.
ومع صعوبة ممارسة النقد في المجتمع الأبوي/ البطريركي وبخاصة في المجتمع العربي، الذي هو أكثر أبوية من غيره من المجتمعات، فلا بد من كسر هذا الحاجز الذي يقف أمام ممارسة الحرية، ليقوم النقد بدوره الفعال في محاكمة القضايا المتفجرة التي تتحكم بالفكر وبالمجتمع، والبدء بحركة نقدية جذرية تبدأ بمعرفة الذات ونقدها وتحريرها من قيودها التاريخية والمجتمعية، فبدون عقل نقدي تتحول الأفكار والآراء إلى أيديولوجية، والأيديولوجية إلى نظام شمولي.
ويرى د.إبراهيم الحيدري أنه من أجل تحرير الذات العربية من أسرها التاريخي والفكري والمجتمعي علينا إجراء نقد مركب: أولا نقد الذات وثانيا نقد التراث، الذي يقوم على النقل وليس العقل، وثالثا نقد الوافد الجديد، الحداثي وما بعد الحداثي، ورابعا الانتقال من نقد الفكر إلى نقد المجتمع ومؤسساته. وعلى الرغم من أن تراثنا العربي حفل بالكثير من الممارسات النقدية، وبخاصة في الأدب، كما عند الجرجاني وقدامة بن جعفر وكذلك في النقد الاجتماعي والفلسفي كما عند المعتزلة، فان النقد العقلاني البناء لم يكن شائعا ولم يمارس إلا على شكل انتقاد، وليس على شكل نقد مبدع يضيف معرفة إلى أخرى، كما أن تراثنا لم يعرف نقد الذات إلا نادرا، وهو ما افقده الموضوعية.
وفي ضوء ذلك يؤكد "نحن بحاجة إلى مشروع نقد أدبي وثقافي واجتماعي وسياسي مهمته ممارسة نقد جذري يهيئ الوعي بأهمية وفاعليته وتأثيره في عملية التواصل والتفاهم والحوار، وهو مشروع يستدعي ثورة عقلانية تنويرية يساعدنا على تجاوز حالة العجز والركود الثقافية والتفاعل الايجابي مع الثقافات الأخرى، ومواكبة التيارات النقدية الحديثة والانفتاح على المكونات التي تدخل في صياغة الوعي الاجتماعي والثقافي، وتأهيل الفكر لممارسة النقد بحرية".
إن ما يهدف إليه الكتاب هو رصد المفاهيم والنظريات والاتجاهات النقدية في مرحلة الحداثة وما بعد الحداثة ومحاولة توضيح الخلط والالتباس في المصطلحات والمفاهيم بين الحداثة وما بعد الحداثة وبين التحديث والمعاصرة وطرحها للمناقشة والتفكيك والنقد ومن أجل نشر وتداول فكر تنويري يتسلح بأدوات التفكيك والتحليل والنقد والتساؤل والمراجعة والتدقيق والمحاكمة وتحريك الذهن ودفعه في مغامرة البحث والتقصي ونقد ما هو غريب ومجهول ومحرم ومخفي وممنوع.
وكما يقول الأديب الألماني هانس انسسبيرغر "علينا أن نرمي الأحجار في البرك الآسنة لتحريكها"، فهدف النقد هو تحريك الفكر وتحرير العقل من أوهامه التي تكبله.
ويوضح أنه من الضروري أن يتضمن النقد نقدا معياريا هدفه احترام الإنسان وحقوقه ومناهضة الأفكار التي تسعى إلى اغتيال العقل وإيقاظ الوعي الإنساني، وتنمية قدراته على الرفض والتحدي والوقوف أمام المعوقات التي تقف في طريقه. وعلى النقد أن لا يكون ترفا فكريا أو حوارا ميتافيزيقيا أو جدلا سفسطائيا، وإنما مشروعا متكاملا لنقد الفكر والمجتمع معا.
ومن أجل الوصول إلى هذا الهدف يضع د.إبراهيم الحيدري ثلاث مهمات أساسية تتمثل فيما يلي: أولا إشاعة روح النقد والنقد الذاتي وتعميق الوعي به، ثانيا نشر مبادئ الحرية والتعددية والديمقراطية واحترام حقوق الإنسان، ثالثا نقد النظم الشمولية والنزعة الأبوية- البطريركية. وهذه المهمات الثلاث هي عناصر ضرورية لأية مراجعة نقدية جادة لإعادة بناء منظومات الفكر والمعرفة والثقافة وتطوير عقل نقدي يستطيع تقبل النقد والاعتراف بالآخر المختلف.
يتضمن الكتاب الصادر عن دار الساقي ببيروت 2012 في 591 صفحة على مقدمة وسبعة فصول وملاحق. يتضمن الفصل الأول إطلالة على الأبعاد التاريخية والاجتماعية والفلسفية لمفهوم النقد ونظرياته المتعددة في الفكر الإغريقي والإسلامي وخاصة في عصر النهضة وتطور العلوم والآداب والفنون.
وفي الفصل الثاني نعالج موضوع النقد كنزعة عقلانية لم تحقق نوعا من الاستقلالية إلا بعد دخول الأفكار التأملية الرشيدة مكان الأفكار التقليدية القديمة، بعد أن تحول النقد الى "جدل عقلي" ثم إلى نشاط متميز للعقل باعتباره تحكيم عقلاني. وهذه الفكرة بالذات هي نتاج خالص لعصر التنوير الذي شكل منعطفا تاريخيا حاسما في تاريخ الحضارة الأوربية ورسخ المبادئ العقلانية التي ما زالت تتحكم في الغرب حتى اليوم.
ويشير د.إبراهيم الحيدري إلى أن عصر التنوير أنتج أول ثورة في الفلسفة الحديثة حيث أحدثت آراء ديكارت تيارات فلسفية عقلية وتجريبية مهدت الطريق لظهوره على المسرح الفكري، حيث أصبح النقد عنده سيرورة معرفية وفعالية فكرية ومنهجا نقديا خضعت له جميع ظواهر الكون والحياة. كما أنتج عصر التنوير تيارات فكرية ومذاهب سياسية ونظريات اجتماعية وفلسفية كان في مقدمتها فلسفة التاريخ وفلسفة القانون ونظريات العقد الاجتماعي. كل ذلك مهد الطريق لقيام الثورة الفرنسية.
أما في الفصل الثالث فبحث الحيدري فيه نشوء وتطور النظرية النقدية في علم الاجتماع والثقافة والفلسفة التي اتخذت فيما بعد اسم " مدرسة فرانكفورت" وارتبطت بأسماء هوركهايمر وأدورنو وهابرماس الذين سبقوا غيرهم في نقدهم للفكر الاجتماعي والفلسفي التقليدي وانتقالهما من نقد الفكر إلى نقد المجتمع ومؤسساته، في محاولة لصياغة نظرية نقدية جادة مثلما جاء به عصر التنوير، مركزين على نظرية هابرماس آخر أهم رواد مدرسة فرانكفورت النقدية في "العقل النقدي التواصلي".
وفي الفصل الخامس طرح الحيدري موضوع الحداثة وما بعد الحداثة للبحث محاولين شرح مفهوم الحداثة ومبادئها الأساسية التي تقوم على العقلانية والتنوير والتقدم الاجتماعي، والتي تشكل قطيعة مع الماضي، معتمدين على أراء هيغل وفيبر وفرويد وهابرماس.
كما تطرق الى تطور الحداثة الأدبية والفنية في أوروبا، وكذلك تيار ما بعد الحداثة الذي يعود في أصوله الى عدمية نيتشه وتأويلية هايدغر للوجود والزمن ونقده للعلم والتقنية.
كما تعرض الحيدري إلى الوجودية والبنيوية وما بعد البنيوية باعتبارها إشكاليات لتحدي الحداثة، منطلقا من أن ما بعد الحداثة مشروع تمرد فكري وعملي على مشروع الحداثة، كما يظهر في السياق الفلسفي في العاب اللغة "ليوتار" والتفكيكية "دريدا" وجيل الاختلاف "فوكو" وغيرهم.
وفي الفصل السادس بحث موضوع الإسلام والحداثة منطلقا من أهمية عصر النهضة في العصر الإسلامي الوسيط الذي وضع أسس مشروع تحديث وتنوير وتقدم اجتماعي، وطرح إشكالية الفكر الاجتماعي والفلسفي النقدي، التي مثلت نزعة إنسانية أخذت بالتطور.
ويقول د.الحيدري "وضعت الإنسان في مركز الصدارة والاهتمام، كما عند المعتزلة. غير أن تفكك الدولة العربية الإسلامية ومجيء السلاجقة إلى الحكم ثم سقوط بغداد على يد التتار أجهض مشروع النهضة الوليد واحدث قطيعة مع الفكر النقدي و سيطرة ثلاثة تيارات أساسية تحكمت بالفكر العربي الإسلامي هي:
أولا التيار التقليدي الذي يقول بأولوية النقل على العقل
ثانيا التيار العقلاني الذي يؤكد على أولوية العقل على النقل
ثالثا والتيار الصوفي الذي يقوم على التجربة الروحية.
لقد استمر الحال حتى نهاية القرن التاسع عشر حين استيقظ العرب على وقع مدافع نابليون".
ويضيف "إن صدمة الحداثة أجبرت العرب على أن ينظروا إلى الذات والآخر نظرة جديدة ومخالفة، وحاولوا صياغة مشروع إصلاح وتحديث قادر على مواجهة التحديات للخروج من مأزق التخلف الحضاري. وقد نشأت عن ذلك ثلاثة تيارات رئيسية: الأول التيار الديني الذي نادي بالعودة إلى الإسلام، والثاني: التيار الليبرالي الذي نادي بالوحدة العربية كبديل للخلافة الإسلامية، وثالثا: التيار التقدمي الذي نادى بالاشتراكية كحل للتخلص من الاستبداد والتخلف، (الطهطاوي والأفغاني ومحمد عبده وشبلي الشميل والكواكبي وغيرهم)".
ويرى الحيدري أن فشل مشروع النهضة على أسس حديثة كان بسبب الظروف والشروط الموضوعية والذاتية التي أعاقت تغيير البني الفكرية والمجتمعية، بحيث بقيت أسيرة النظم الاستبدادية والسلطة الأبوية - البطريركية والعقل الماضوي غير النقدي، التي أبقت على سؤال الحرية مبتورا، الذي يشكل جوهر النهضة والحداثة.
كما تطرق الحيدري في كتابه إلى إشكالية الإصلاح والتحديث في العالم العربي ودور البنية الفكرية والمجتمعية التي أعاقت الدخول في عصر الحداثة، منطلقين من السؤال الحرج: لماذا لم تنجح مصر ونجحت اليابان؟.
وقد بحث في الفصل السابع والأخير الحداثة وإشكالية الخطاب النقدي في العالم العربي بعد أن أصبح النقد في العصر الحديث جوهر الحداثة. والسؤال الذي يطرح نفسه: هل يقوم العرب بدورهم في التفكير النقدي التحليلي المستقل عن أية سلطة معرفية ويأخذوا زمام المبادرة في صيغ نقدية جديدة والمشاركة الفاعلة في الأفكار والنظريات والمناهج النقدية المعاصرة؟.
ويؤكد الحيدري تأثر النقد العربي في العصر الحديث بتيارات ومناهج النقد الغربي، دون أن يتطور تأثره إلى خلق نظرية نقدية عربية لها خصوصية.
وهو ما أنتج أزمة في الخطاب النقدي ترتبط بأزمة العقل العربي، التي لا تنفصل عن إشكالية المجتمع وتأزمه وتخلفه والدخول الى الحداثة من أبوابها الأمامية.
ان هذا الكتاب هو أيضا محاولة لإعادة الاعتبار للروح النقدية العقلانية وقيم التنوير، انطلاقا من أن النقد هو المحرك الأساسي لعملية التطور والإبداع والتغيير الاجتماعية، وهو كتاب يسد فراغا كبيرا في المكتبة العربية.
أرسل تعليقك