القاهرة ـ وكالات
يستحق الكاتب والإعلامي إبراهيم عيسي أن يكال له الثناء والمديح، دون حرج أو إدعاء أو شبهة المجاملة، فقد استطاع بفضل عمق رؤيته ودهاء بصيرته أن يكون علامة فارقة في تاريخ الصحافة المصرية، يدرك ذلك ويعترف به أعداؤه قبل مريديه، لكن للأسف سطوة حضوره الصحفي والإعلامي ألقت بظلال ظالمة على إبداعاته القصصية والروائية، هذه الإبداعات ـ أخص منها تحديدا روايته الأخيرة "مولانا" ـ للأسف الشديد لا تلقى عناية نقدية ربما لجهل النقاد بها أو عدم توقعهم أن يكون كاتبها هو إبراهيم عيسي الصحفي الشهير أو انشغالهم بالتقليدي والمكرر والسهل من الأعمال، أو تردي أدواتهم النقدية وعدم قدرتها على التعامل مع أعمال كبرى.
رواية "مولانا" التي كلفتني قراءتها أسبوعا ولست نادما لأنها قدمت لي متعة جمالية وثقافية وفكرية أؤكد أنني أفتقدها في الكثير من الأعمال الإبداعية السردية الصادرة خلال هذه الفترة، هذه الرواية أكدت بما لا يدع مجالا للشك أننا أمام روائي كبير لا ينبغي تجاهله لحساب كونه صحفيا مهما.
الرواية التي لفتت جائزة الرواية العربية ـ النسخة العربية من البوكرـ باختيارها ضمن القائمة القصيرة لعام 2013، تدخل إلى الأحشاء من عوالم أساسية شكلت وتشكل أزمة المجتمع المصري وما أصابه من متغيرات طالت قيمه وأخلاقه وفكره واقتصاده أدت إلى نزيف التدهور الذي يجري الآن، باعتبارها ـ هذه العوالم ـ الحاكمة الفعلية للبلاد، وتشتبك مع أبنيتها السلطوية القمعية، وتفتت تركيبتها قابضة على دواخيلها، وتفضح لمكوناتها الاجتماعية والأخلاقية وتمسك بتلابيب جرائمها ضد الدين والإنسان وضد نفسها.
أول هذه العوالم: علماء الدين والشيوخ والدعاة والوعاظ ما يطل منهم على الفضائيات الدينية أو منابر الجوامع، وتستخدمهم السلطة ويسعون إليها طمعا في النفوذ والجاه والمال، حيث ترصد الرواية التفاصيل الدقيقة للأهواء والحسابات التي تقف وراء فتاويهم وألاعيبهم بها، ورؤاهم ضيقة الأفق التي تعتمد النقل منهجا، والعلاقات التي تربطهم بالنظام ورجال الأعمال وأجهزة الأمن، علاقاتهم الاجتماعية والأسرية، قضية المسلمين والمسيحيين وما تنطوي عليه من ألاعيب سياسية، قضية التبشير وما تحمله من إغواء مشبوه ومشوه.
والثاني: عالم المال والأعمال المتسلق على السلطة والمحمي برأسها وأجهزتها الأمنية، والدور الذي يلعبه رجال "البزنس" في تخريب وسرقة وإفساد المنظومة المجتمعية اقتصاديا، والانحراف بها قيميا وأخلاقيا دون وازع من ضمير أو خوف من العقاب.
والثالث: الصراع الديني باعتباره صراعا سياسيا سلطويا منذ فتنة الإمام على رضي الله عنه ومعاوية بن أبي سفيان وإقامة الأخير خلافة بني أمية، حيث انفجر بركان الملل والنحل والمذاهب، ليخرج الديني من الديني إلى السياسي، ويستغل كمحور جوهري وأساسي في بنية السلطة، وما يجري في الحاضر الإسلامي الآن يمثل تجليا من تجليات سطوة السياسي على الديني.
والرابع: صراع التيار المحافظ المغلق على حرفية النص القرآني والنبوي والناقل عن السلف مع تيار التجديد في الخطاب الديني الذي يعمل العقل والتجربة الإنسانية، ويمثل الأول علماء وشيوخ السلطة والمتشددين والثاني "مولانا"، وهو الصراع الذي يتحمل مسئولية تخبط التاريخ الإسلامي المعاصر ويجعل من إمكانية تجديد الخطاب الدين أمر مستحيل.
والخامس: الإعلام كبوق للسلطة وذراع من أذرع أجهزتها الأمنية وقدرتها على فرض سطوتها وسيطرتها.
تعمل هذه العوالم داخل النص كالأوركسترا لتعزف سيمفونية شائكة تجرح وتطارد موسيقاها الحواس تارة، والعقل والفكر تارة، والروح والقلب والجسد تارة، وقد أدار المايسترو آلاتها / قضاياها بعمق شكل منها بالنهاية عملا روائيا فذا.
تشتغل الرواية على تساؤلات الفكر الديني آراء وأفكار وفتاوى متطرفة تخص التشيع والشيعة، والمسيحية والمسيحيين، والمرأة حجابها ونقابها، والردة والصراع المذهبي، وغيرها، هي قضايا تمثل سلاحا سياسيا بيد رجال السلطة والمال، بعد أن نجح كلاهما في أن يؤسسا ويؤصلا ذلك عبر التاريخ الماضي والحاضر من خلال اختراق علماء الدين والشيوخ والدعاة والوعاظ، وترهيبهم إغواء وإغراء وترويضا، وتحريكهم بعضهم كدمى يقولون ما تشاء لا ما يشاء الله وشرعه، ويفعلون ما يؤمرون به في الوقت الذي تشاء وبالطريقة التي تشاء واتجاه من تشاء.
الراوي أو الشخصية الرئيسية "مولانا" التي تقودنا إلى داخل هذا الزخم من الصراع، تتمثل في "الشيخ حاتم الشناوي" أو "مولانا" الأزهري المتحرر فكريا والمستنير العارف بأبواب عالمه والقابض على جل مفاتيحه، بدأ خطيبا في مسجد أثري لا يحظى بإقبال كبير، واستطاع أن يلفت إليه الأنظار بما يملكه من علم وسعة معرفة، فأقبل عليه جمهور المنطقة المحيطة بالمسجد، ليذيع خبره، وتلتقطه إحدى الفضائيات مصادفة بعد اعتذار ضيفها الشيخ فتحي المعداوي، ليصبح نجما ملء السمع والبصر، ومن ثم مدعوا في حفلات ولقاءات نخبة رجال الأعمال ومقربا من السلطة السياسة.
مولانا لا يملك العلم فقط ولكن أيضا يملك تفسيرا وتأصيلا فقهيا تجديديا غير جامد أو تقليدي، وقدرة فائقة على إدارة الحوار مع مشاهديه والشخصيات التي يلتقيها على اختلاف مشاربها، ويتمتع بخفة الظل واليقظة وسرعة البديهة والنظرة الثاقبة القادرة على تقدير طبيعة البيئة التي يتحدث إليها أو فيها، هذا فضلا عن حس إنساني وصوفي ووطني ناضج يستتر أو يستره صاحبنا وعيا بزيف ما يدور حوله، وتحسبا من التورط في جرأة توقعه في نتائج غير محمودة العواقب.
صنع إبراهيم عيسى بطله "مولانا الشناوي" بمخزون ثقافيّ فكري ومعرفي ديني واسع وعميق، وظفّه بجدارة في صناعة فضاءات النص، وما يتمحور داخلها من صراعات، ليصوّر المرحلة الأخيرة من حكم الرئيس السابق، والتي كانت سطوة الحكم فيها لابنه، وذلك دون أن يسميهما، ولكننا نستطيع أن نرى ذلك بوضوح.
الابن الطموح الذي ينتظر أن يكون رئيسا للبلاد يفاجأ أن شقيق زوجته "حسن" ابن رجل الأعمال "أحمد منصور" يريد أن يتنصر، الأمر الذي رآه يشكل تهديدا مباشرا على مستقبله السياسي، فيأتي له بالشيخ فتحي المعداوي كي يقنعه بالعدول فيفشل، يعرضه على الطبيب النفسي فيفشل في رده عن قراره، فيكون اللجوء لـ "مولانا" الشيخ حاتم الشناوي، بعد أن لمحت حماته ابنها يتابع إحدى برامجه باهتمام.
وهنا نرى لعالم المال والأعمال وهو يسقط فريسة ضعف وتخلخل بنيانه العقائدي، وخوف السلطة من اهتزاز عرشها، والكيفية التي تدير بها الأجهزة الأمنية البلاد وفي القلب منها الصراع الديني وعملية التبشير، لنخلص إلى ما وصل إليه الدين من هشاشة بفضل تلاعب السلطة وجمود الخطاب الديني لشيوخ ولعلماء الدين ودخول مدعين وتجار بالدين إلى الساحة.
يعطي إبراهيم عيسى لتفاصيل المكان والوجوه والزمن وحركتها وتفاعلاتها دورا بارزا، إذ يعد ذلك جزءا حيويا من نسيج التعرف على تاريخ الشخصيات وما تبطنه من أفكار وما تسعى إليه من أهداف، حيث تسمح له أن يفتح خزانة الشخصية، مثال ذلك شخصيات رجال الأعمال خالد أبو حديد وعلى الكعكي والحاج عبد البصير وأحمد منصور، وخليل النحال ورجال الدين مثل الشيخ فتحي المعداوي والقس ميخائيل منصور، ورجال الأمن مثل أحمد الفيصل وأبو المكارم السباعي، فيعري بل يشرّح تقاطيع ملامحها ودواخل أفكارها وعلاقاتها ومواقفها، وأثر ذلك على المجتمع، حيث يغوص فيها بإمكانيات سردية أسلوبية ولغوية وفكرية وثقافية وجمالية مدهشة في قدرتها على صياغة الرؤية ونسجها برشاقة وتشويق.
العوالم المثقلة بالفساد متقلبة، لا أمان لها ولا عهد، تطارد شرورها الخبيث والطيب انتقاما وحقدا وشذوذا، ويتجلى ذلك في تجار الدين والمال والسلطة الذين تملأ صورهم كافة الأرجاء، بدءا من الشيخ فتحي المعداوي، والشيخ خليل النحال، ومرورا بابن الرئيس وصهره ورجال أمنه وانتهاء بالفنان نادر نور وعلى الكعكي رجل الأعمال وتاجر الرقيق الراغب في الحصول على فتوى ترفع عنه ثقل جرائمه.
تطارد هذه العوالم الفاسدة كل شخصيات الرواية، القريب منها والبعيد، فها هي تصل إلى النموذج الإنساني الطيب الذي يحبه ويلجأ إليه "مولانا"، الشيخ مختار الحسيني الصوفي الشريف الذي يمتد نسبه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتنتهكه انتهاكا فاضحا، لتحول حياته وحياة أسرته إلى جحيم، ثم يعتقل ويزج به في السجن بتهمة بتهمة قيادة تنظيم إيراني يدعو إلى التشيع في مصر، ويعذب بكل صنوف العذاب ويشهر به وبسمعته في الفضائيات الدينية والصحف باعتباره رافضي كافر، وأخيرا يقتل في معتقله، لنرى كيف يقمع الإنسان والدين الصادق معا بفعل السلطة الغاشمة التي لا ترى إلا ذاتها ولا تخدم إلا سيدها.
الشيخ الحسيني أخذ بمعرفته بسر عجز وشذوذ ابن الرئيس وجريرة علاقته بـ"مولانا" أيضا، أما "حسن" الشاب الغض ابن رجل الأعمال أحمد منصور وشقيقة زوجة ابن الرئيس، والذي تخطى عمره العشرين، فنعيش قرر تنصيره كرها في العائلة ووساخاتها في السياسة والبزنس، وفزعا وهروبا مما يحيط عالمها القمعي والمستبد والفاسد اللامبالي من جرائم، واستعداء أبيه وزوج أخته له حتى أن كليهما كان لديه الاستعداد للتخلص منه في حال شكل تهديدا لهما الأول في عالم المال والثاني في عالم السياسة، لكننا نكتشف بنهاية الرواية أن تنصره لم يكن إلا سبيلا لاختراق الكنيسة وشبابها من أجل القيام بعمل إرهابي يقع فيه عشرات القتلى والمصابين من الأقباط.
شقيقة حسن وزوجة ابن الرئيس تبدو أيضا مغلوبة على أمرها جهلا وقمعا، لا رأي لها ولا دور في حياة زوجها العاجز أو الشاذ الذي تحركه شهوة الاستيلاء للسلطة، وتحيطه دائرة ترتبط مصالحها بوصوله للرئاسة ومن ثم يمكن أن تفعل أي شيء لإزاحة ما يحول دون ذلك.
العوالم الفاسدة تطارد الجميع، لا تستثني حتى أصحابها ومن يديرونها، منظومة بعضها من بعض، أو لنقل دائرة تنهش كل من بداخلها ومن يفكر بالدخول والخروج أيضا، تسلب الضمير وتميت القلب وتذبح الروح.
عرف "مولانا" هذه الشرور وتجنبها لكنه لم يفلت منها ومن صدماتها، فعلى إثر القبض على الشيخ الحسيني، يُستدعى إلى جهاز أمن الدولة ويُلقي في غرفة مغلقة من الخارج لساعات طويلة في محاولة لإذلاله، ويعرف بعد خروجه من "حسن" شقيق زوجة ابن الرئيس، أنهم ـ أمن الدولة ـ كانوا ينتوون إدخاله شريكا للشيخ الحسيني في قضية التنظيم الشيعي، وأنه تدخل لإنقاذه.
ويذوقها أيضا حين يعرف أن جهاز أمن الدولة دس له راقصة فيديو كليب وممثلة فاشلة تدينت ودرست في أحد معاهد الدعاة وحصلت على الماجستير، لتتبعه وتسرقه وتغويه، وذلك عقب استلامه من ابن الرئيس وزوجته مهام رد "حسن" إلى عقله وإقناعه بالعدول عن التنصر، هذا التنصر الزائف.
إن أهم جماليات هذه الرواية الضخمة التي يصل عدد صفحاتها 554 من القطع المتوسط، وهي صفحات ممتلئة، أنها امتلكت نسيجا لغويا تضافرت فيه لغة الواقع المعاش واللغة الصحفية واللغة التراثية التي لا تزال قادرة على التواصل، ولغة القرآن والحديث والفقه والتفسير، وقد توافق ذلك وتواكب مع الأفق الاجتماعي والديني والسياسي ووجهة نظر الكاتب.
استطاع هذا التضافر اللغوي أن يمنح الحوار ثراء أسلوبيا حال دون رتابة النص وأكسبه متعة وشغف مواصلة القراءة، وحمل خصوصية الرؤية والرسالة المستهدفة، فالحوار شكّل خطوط وملامح اللغة، وخلق أبعادا سردية نهضت بالنص وجذبته إلى أجواء ِما وراء النص، ليقدم رحلة معرفية محفوفة بالمخاطر لواقع الصراع الديني وسوقه الذي يزدحم بالمتطرفين المتاجرين من الوعاظ والدعاة.
وكما عمق وأضاء إبراهيم عيسى قضايا روايته وأصولها، عمق وأضاء تاريخ شخصياتها، لتصبح جميعها علامات هادية على درب النص الساعي إلى كشف فساد قمة هرم السلطة وما يرزخ تحت الخطاب الإسلامي من ويلات التطرف والتشدد، سواء منها ما اختفى سريعا أو مر عابرا أو شكّل عنصرا أساسيا في بنية النص كزوجته أميمة وابنه عمر الحاضر الغائب والشيخ مختار الحسيني أو حسن وابن الرئيس.
يبقى أن نشير إلى أن هذه الرواية تشكل إضافة حيوية للرواية المصرية والعربية، وأن السطور السابقة مجرد رؤية ومحاولة للتعرف على رواية مهمة، تحتاج إلى دراسات موسعة للإلمام بزخمها الفني والجمالي والمعرفي وقراءتها من زواياها الثرية قراءة دقيقة.
أرسل تعليقك