بيروت ـ وكالات
الشعرُ الذي يستطع الوصولَ إلى المناطق المجهولة الساحرة يعني في واحدة من مدلولاته أن الشاعر لديه من الخبرات ما يمكنه من صقل ملكة الإبداع الخيالي وأن لديه ضمن خبراته العديد من العناصر التي تؤثر في موجوداته وتشكل مع بعضها البعض علاقة صميمية رغم غربتها مع العالم، وهو بالتالي أي الشعر من هذا النوع سيتجاوب مع الروح الجمالية في أي عصر ما وهو إستجابة طبيعة لتوالد المخيلة خارج إطارها الزماني والمكاني في اللحظات المتوقع حدوثها. ومن المرجح هنا أن الزاوية الروحية زاوية منفرجة تتقبل التغريب والمضادة وشكل من أشكال العبث الوصفي وقدرٌ ما من الثابت المتحول وتراها تمارس تسلطها على الكيانات المغلقة وهو السجال الذي به يتم التخلص من التوافقية والإجبارية لإيصال اللغة لحفاوة الخيال في شكلها الخفي وشكلها الرمزي.
إن الشعر حين يحاولُ أن يقترنَ بتصور مماثل لتصور اللاشعور للأنا الجمعي فهو باعتقادنا يحطم الموصلات التكوينية للغة القديمة ليديم اشتغاله على خلق لغة جديدة مقرها عقله الباطن.
ومن هنا يقرر الانفعال ما نوع؛ وما مدى نزعاته؛ وكيف يصل الحلم ثم يصل الهلوسة بعد أن تتم عملية التمرد، ويتحقق الكيان الجديد الذي يكتب به النص الشعري، وهنا لا يمكن وضع مقياس ما كون الفكرة ليست وليدة وحدانيتها لأنها تلد أفكارا أخرى وتتسع بمديات المعاني غير المتوقعة.
وعلى هذا النحو تقدم الشاعرة رنا جعفر ياسين في مجموعتها الشعرية الجديدة "للغواية قواميسها .. ولكَ إحتمالاتُ البياض"، فراسة سيكولوجية للأطياف مفادها أن هناك أشياء كثيرة في الكون لم تنجز بعد بدءا بأشباع الأحلام المليئة بالمخاطر وكل شيء في نصوص تقول (هذا سيحدثُ بالفعل) وتحت دراية الأنا بأن هذا سيحدث بالفعل وهو الخطاب الذي في وجه آخر له لا يعني أنتَ أو أنا أو ذاك وتلك وهو وهيَ بل ما تعني نتائج الحياة في شطحاتها وانكساراتها وحلزونية وقائعها عند ذلك يبدأ الخزين النفسي بتحريك البعد الإعجازي في المشاهد اللامرئية سواء تلك المشاهد التي تعبر عن الحاجة لمعرفة الغد أو تلك التي بقيت في وهج الأمس وهو الشد المطلوب للصور العميقة الإنفعال بعد أن حققت الشاعرة رنا جعفر قصدها في شرذمة جزءا من إحساساتها.
وهنا مطلق الصواب لجعل القاعدة التي بنيت عليها الجملة الشعرية تشكل مناعة ضد جملة شعرية أخرى، وبذلك يتحقق ذلك الإفتراق الذي ينحو بالعاطفة نحو التغريب البهيج والممتع للإحتفاء بالعزلة الوجدانية، ولذلك ففي مجمل نصوص مجموعتها الجديدة يتحقق إستقلال المفردات المستخدمة ليتحقق إستقلالية التركيز في الجملة الشعرية وضمن ذلك تأمين الحواس لمناطق الإستدلال ليكتشف المتلقي كثافة الإشباع في الصور الشعرية والتي من ميزاتها أنها صور تتمتع بالإدراك ضمن هويتها ذات المنحى الإدرامي الإندماجي كذلك فإن المعاني لن تتشابه في ظل فعل القوى التعبيرية للغة ولن تستخدم كوسيلة للسخرية وهذا النشاط يؤشر بأن لغتها شُحنت بالحد الأعلى من المعاني التي ولدتها القدرات الدلالية الجديدة لذلك أحاطت أشياءها بالدهشة وحققت الكثافة الإيجازية وتجسد ذلك بالإضافات اللاحقة للمعاني المتوالدة من المعنى الواحد لتضمن إتساع مناطق الجمال عبر متاهات مريحة.
ورغم تلك الشفافية وهذا الدوي من الصراخ الصامت لازمَ ذلك تغييبات غير مرئية لذات غائبة ترسل خطابها بدون أن تُدرك وبدون أن تُرى لذلك كان قصد الإستخدام اللغوي هو المحافظة على جوهر النوعية ضمن الإرسال دون النظر الى كون اللغة تركيبا مبنيا على الإجماع ونسيجا تربطه مجموعة من الإتفاقات التاريخية والإجتماعية، وهو ما جعل النصوص تتجه ضمن وظيفتها الجمالية ضمن البعدين التخيلي والبصري الباطني :
أختبر الرؤيا
من غير عنادٍ
وبوضوح شرسٍ جداً
سواي
لا أحد يستطيعُ مطاردةَ الشمس
أفلا أستحقُ كوناً لي
وباليقين أن هناك رؤية شاملة للأشياء التي تتوقع الشاعرةُ إنتاجها باتجاه آخر رغم هذا الفيض العاطفي إذ لا هناك في النصوص قيمة مضللَة أو إدراك بطئ لجوهر العلاقات بين تتابع الصور الشعرية فكل شيء له ملامحه وكل شيء ضمن انفلاته التجريدي لحث القوى الخفية لخلق الترتيب المثالي للوحدات والتوقع لتقلبات المخيلة :
في الطريق الى الضوء
طاعونٌ مستاءٌ
أدفنه في بالونات محجوبة
وأمسحُ رفات ما لم يتحقق عن تضاريس الهواء
لا شك بأن الوجود الحسي في مغايرة مستمرة وقد يظهر كليا ويختفي كليا عبر صفات غير مشابهة لجوهر الشيء ووظيفته فلا صوت يأتي ليتردد ما بين العالم الحسي والعالم العقلي إنما السعي لتنمية المناطق المعزولة غير المرئية لتعميم شكل من أشكال الاضطراب ما بين اللغة ومعانيها، وهنا النزعات لن تكون مستقرة المطالب مفهومة القصد ذات غرض واع تقام عليه المتطلبات المكانية والزمانية لأن المكان هنا لم تترك الشاعرة دلالة ما لم تشر إليه، ناهيك من أن الزمان هنا زمان صوتي شبيه بقدرة الأشباح على التملص والإختفاء فكل شيء له أثيره المطلوب، ولا وجود لتسلسل ثلاثي فيه يمكن الإستدلال من خلاله على لعبة (الحاضر – الماضي – المستقبل) لأن مجرد السماح لأي من القوى الزمكانية ذلك يعني الولوج إلى النشاط الواعي الشعوري والذي يُمكن الأغراض الوصفية من قيادة النص وبالتالي يخرج الشعر من سحر وظيفته، هنا المكتشف مما أرادت الشاعرة في مواجهة غيابها التأملي في قضاياها الشعرية حين تمكنت من تغريب اللاوعي، وقدمت المناسب والأرقى لتلك الآصرة التي تجمع كلية البناء الشعري بدون خداع بل بتسلسل منظم تصوغ غرضها التراجيدي بحمى الألم النفسي الذي يتقافز ما بين شبكة التضادات في صورها الشعرية.
أرسل تعليقك