يشكّل كتاب الرَفاه لماري دالي مدخلًا ممتازًا إلى مفهوم "الرفاه" نفسِه والمفاهيم المجاورة له وتأمّلًا نقديًا في مدى فائدته في البلدان المتقدمة اليوم. وهو بخلاف المقاربة المعتادة التي تعُدّ الرَّفاه welfare مشكلةً اجتماعيةً فحسب، يقارب هذه القضية من زوايا نظرية متعددة وبمنهجية تتداخل فيها الفروع المعرفية، ما يعمّم الفائدة على جمهور واسع.
تلاحق دالي استخدام المصطلح في السياقات التاريخية والاقتصادية والسياسية والاجتماعية عمومًا، وفي أبحاث علم الاجتماع على وجه الخصوص. وتناقش العلاقة بين مفهوم الرفاه وسواه من المفاهيم ذات الصلة؛ مثل "الرخاء" و"الرعاية" و"الفقر" و"الإقصاء".. إلخ، مسلِّطةً الضوء على قدر كبير من البحث المعاصر الذي يمسّ هذه القضية، بما في ذلك التنظير والبحث الفلسفيين حول "دولة الرفاه". وهي تستخدم في النظر إلى الرفاه عدسةً واسعةً هي عدسة الإحصاء الوصفي التي تستكشف أشكال الرفاه المادية والاجتماعية من خلال أحدث النتائج. وهذا الكتاب، على الرغم من حجمه الصغير، هو كتاب واسع المدى، ربما أوسع من أن نعدّه كتابًا تعليميًّا أو مرجعًا بحثيًّا فحسب؛ ذلك أنّه يضع نصب عينيه مجالًا واسعًا من الأبحاث والسياسات والفروع المعرفية التي ينتظمها مفهوم الرفاه على نحوٍ من الأنحاء.
تتركّز مقدمة الكتاب وفصله الأول في بعض التعريفات. فترى دالي أنَّ مصطلح "الرفاه" يشير بمعناه الواسع إلى "مجموعة من المثل والممارسات التي تميّز السلوك البشري في مواضع متنوعة"؛ مثل الدولة والأسرة والمجتمع والسوق (ص 16)، وأنّه يحمل معه دلالات متنوعةً، مثل "الكفاية المادية، والرخاء، وانعدام الظروف السلبية، والصحة الجسدية والنفسية، وإشباع الرغبات، وتوفير الحاجة ضمن سياق خدمات منظمة للمحتاجين والسكان على نطاق واسع" (ص 24).
لكنّ دالي لا تقتصر على تعريفها الخاص للرفاه، بل تناقش طيف التعريفات التي قدّمها باحثون آخرون، وذلك قبل أن تمضيَ بتركيز القارئ بعيدًا عن تعريف المصطلح إلى استعراض ضروب استخدامه في العلوم الاجتماعية الكلاسيكية والمعاصرة في مجالات ثلاثة؛ أولّها يركّز فيه الاقتصاديون في إرضاء التفضيلات، ذات الطبيعة المادية في معظمها. وثانيها ينظر فيه علماء السياسة إلى فكرة الرفاه في سياق سياساتٍ ومؤسسات مثل الدولة. أمّا ثالثها، فيبحث فيه علماء الاجتماع الكيفية التي يردّ بها الأفراد والمجتمعات على مشكلاتهم الاجتماعية.
أمّا الفصل الثاني فهو بمنزلة استطراد في المصطلحات الحافّة بمصصطلح الرفاه والقريبة منه، ولا سيّما "الرخاء" و"الرعاية". كما تتطرق دالي إلى عدد من الأعمال التي صدرت مؤخّرًا وأحدثت تحولًا عن التركيز الكلاسيكي في سبعينيات القرن العشرين وثمانينياته في الرفاه بوصفه توفيرًا للموارد المادية، في اتجاه استخدامات تركّز في الفاعلية وفي "العمليات العلائقية وتلك التي بين الأشخاص التي يمنح عبرها الناس معنى وقيمة بعضهم لبعض، ولما يفعلونه" (ص 82).
يتناول الفصلان الثالث والرابع، على نحوٍ موجز - لكنه شامل - موضوع الرفاه على المستوى النظري، والكيفية التي تنظّم بها المجتمعات دول رفاهها. ففي الفصل الثالث، تَعْرِض دالي لكثير من العلوم الاجتماعية والنظريات الفلسفية التي تناولت الرفاه وتضعها في أربع فئات واسعة، هي الليبرالية، والديمقراطية الاجتماعية، والماركسية، والمحافظة. وترى أنَّ أنظمة دولة الرفاه في معظم البلدان المتقدمة، في أوروبا وأميركا الشمالية وأستراليا، إنما تعكس الفئات النظرية الليبرالية، أو الديمقراطية الاجتماعية، أو المحافظة، مع الأخذ في الحسبان أنّ أيّ نظام ماركسي/ اشتراكي لا يزال قائمًا يمثّل شكلًا بائدًا من الشيوعية؛ لأنّ هذه الأنظمة بمنزلة بقايا من حيث طبيعتها، وأغلب الأحيان تعتمد على خصخصة ثقيلة لخدمات الرفاه (ص 134). هكذا تتقصّى دالي نماذج دولة الرفاه الكلاسيكية في أوروبا وبعض البلدان الأخرى الناطقة بالإنكليزية من خلال تطورها التاريخي كجزء من صعود دول الرفاه بعد الحرب العالمية الثانية، مع تركيز في التحولات التي جرت في العقدين الأخيرين المثقلين بالأزمات وضروب التقشف.
يتّخذ الفصل الخامس شكل الوصف الإحصائي لسُبل حصول الأفراد على رفاههم، واختلاف ذلك باختلاف دول الرفاه. وهي تتناول أولًا الحاجات المادية؛ مثل العمل المأجور والفقر الناجم عن البطالة، وتنظر عن كثب في النتائج المتعلقة بالجندر وضروب انعدام المساواة الاجتماعية أو التفاوت الاجتماعي. وتناقش دالي أنواع التفاوت المذكورة، ومدى توفير السوق للرفاه الفردي في مقارنة بين دول مثل ألمانيا والسويد والمملكة المتحدة والولايات المتحدة الأميركية. أمّا الفصل السادس، والأخير، فيبعد التركيز عن الرفاه المتأتي من خلال العلاقات الاجتماعية، ولا سيّما العلاقات الأسرية. كما يتطرق هذا الفصل إلى تحقيق الرفاه غير المادي، أو رأس المال الاجتماعي. ليختتم بتناول العلاقة بين دولة الرفاه وأُسَر الرفاه، وكيفية تأثير ذلك في رفاه الأفراد في المجتمعات الأوروبية المختلفة.
ربما كان حجم الكتاب المحدود سببًا للتغاضي عن بعض الأمور التي كانت جديرةً بالتناول. فهو لا يتطرق مثلًا إلى دور الدين ماضيًا وحاضرًا، بوصفه مصدرًا رئيسًا من مصادر الرعاية والرفاه المادية والعلائقية. ولا يتطرق أيضًا إلى الرعاية الصحية ونُظم هذه الرعاية التي تُشكّل مجالًا حاسمًا من مجالات الرفاه وسياساته وبحوثه. وإذا ما كان تناول الكتاب لبلدان أوروبا الشرقية هو ذلك التناول المقتضب، فإنه يتجاهل بقية العالم وما فيها من أمثلة الرفاه ودول الرفاه التي تختلف عن النماذج الغربية المتّخذة كمعيار. ويمكن أن نعدّ الصين وجنوب أفريقيا وتركيا بعض الأمثلة المتطورة واللافتة للنظر التي ينبغي ألّا تهملها أيّ مناقشة كاملة لمفهوم الرفاه.
وإذْ تدمج دالي بين "الرفاه" و"الرخاء"، فإنها ترى أنّ من الضروري إدخالَ ما يشعر به البشر تجاه أوضاعهم حيّز المناقشة؛ لأنّ ذلك "بقدر أهمية الظروف التي في ظلّها يستهلكون ويعيشون" (ص 54). لكنّ هذا الأمر ليس محلّ خلاف، والسبب وراء استخدام العلوم الاجتماعية المصطلحين ("الرفاه" و"الرخاء") هو أنها تشير إلى شيئين مختلفين. فعلى الرغم من الترابطات السببية والنظرية الكثيرة اللافتة بين الرخاء والرفاه، لا لزوم لدمجهما في مفهوم واحد. ويمكن تناول كلّ منهما على حدة أو في علاقة أحدهما بالآخر، من دون أن نعيد تعريف أحدهما أو كليهما. ويبدو ضمنًا أنّ دالي تحبّذ إعادة تعريف مصطلح "الرفاه" ليشمل كلًّا من الرخاء والرعاية والسعادة، من دون أن تقدّم أسبابًا عمليةً وافيةً للقيام بذلك؛ إذ تكاد أسبابها تقتصر على "قراءة محسنة لبنية الحياة الاجتماعية والاقتصادية، ومدى فائدته في تشكيل ملامح حياة الناس اليومية ومسالكها" (ص 208).
على الرغم من هذه القضايا، فإنَّ الكتاب يحقق غرضه في أن يكون نوعًا من الدليل إلى مفهوم الرفاه. لكن تغطيته طيفًا واسعًا من المواضيع يجعل من الصعب وضعه موضعًا عمليًّا. فمن غير الواضح نوعُ المساق الأكاديمي العامّ، أو القارئُ العامّ الذي سيفيد من مثل هذا الكتاب من بدايته إلى نهايته؛ ذلك أنّ الباحثين الذين يرغبون في الربط بين الرعاية والرفاه والسعادة سيجدون الفصل الثاني ذا فائدة كبيرة. أمّا الباحثون الذين يدخلون مجال الرفاه أوّل مرّة، فسوف يفيدون كثيرًا من الفصلين الثالث والرابع. وأخيرًا، فإنّ من يرغبون في صورة إحصائية سريعة للرفاه في أربعة من البلدان المدروسة كنماذج أساسية سوف يفيدون من الفصلين الخامس والسادس. ولعلّ أكبر فائدة يأتي بها الكتاب هي جدارته بأن يكون مرجعًا لكلّ من يريد تناول الرفاه.
ومن ميزات الكتاب الممتازة تأكيد دالي بقوة أنّ استخدام مصطلح "الرفاه" في الولايات المتحدة انحرف عن مساره وباتت له دلالة سلبية تتعلق بالاعتماد على الغير أو إساءة استخدام الموارد، في حين يُستخدم هذا المصطلح في بقية العالم، سواء كان ذلك على نحوٍ عامّ أو في النطاق العلميّ، بطريقة أقلّ سلبيةً. ومن ميزاته العملية الأخرى مراجعته المكثفة للعناصر السببية الخمسة التي قدّمها إيان غوف كمحركات لتنمية دولة الرفاه: التصنيع، والمصالح، والمؤسسات، والأفكار، والتأثيرات الدولية (ص 135). ويأتي ذلك كنوع من التذكرة للباحثين في شؤون الرفاه ودولة الرفاه بأنَّ هنالك على الدوام ما يتعدّى التفسيرات المبسطة المؤسسية أو الاقتصادية أو المتعلقة بالقيمة لدولة الرفاه وثمارها. وهذا يدلّ على أنَّ الرفاه أمرٌ واسع ومعقّد، وأنَّ فرضيات علماء الاجتماع ونظرياتهم في هذا المجال يجب أن تُصاغ على هذا الأساس.
أرسل تعليقك